تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الرباط 08/10/1980 :خطاب صاحب الجلالة المغفور له الحسن الثاني بمناسبة افتتاح الدورة الأولى لمجلس النواب : السنة التشريعية 1980-1981

08/10/1980

الحمد لله و الصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه

حضرا ت المنتخبين :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا "، صدق الله العظيم.

وبعد، اعلموا وفقكم الله أنكم وأنتم منتخبون تمثلون تلك الفئة المسلمة التي أراد الله أن يستخلفها في الأرض، ذلك أن الشعب المغربي شعب حبيب عزيز أصيل أبى حينما انتخبكم ووضع ثقته فيكم، وأمانة المصالح العليا على عاتقكم، كان في ذلك الوقت ينتظر أن تدافعوا عن مكتسباته، وتحاربوا لأجل مقوماته، وتضحوا لاحترام مؤسساته، فإذا أنتم- رعاكم الله - عرفتم كيف تؤدون تلك الأمانة، أمانة الاستخلاف في نوعيتها وحجمها وعمقها، فلنا اليقين أننا سنطمئن كلا وبعضا على مستقبل بلدنا، وعلى مستقبل كيفية الحياة والعيش، وفلسفة العيش التي أردناها لوطننا.

حضرات المنتخبين :

إن المغرب اختار لحياته قانونا دستوريا، هذا الدستور الذي يعطي لكل سلطة ما يجب أن يعطي لها وهو بهذا يراهن ويتحدى، فلنضرب مثلا: هل ترون - حضرات السادة- في العالم النامي بلدا مثل بلدكم معرضا لجميع الجراثيم؟ لا جواز قبل الإذن، ولا إذن للخروج والدخول، حرية الصحافة، حرية النقابة، حرية التجمع، حرية الرأي، تعدد الأحزاب، تعدد الهيآت: والى جانب كل هذا فالمغرب يخوض حربا ضروسا ضد عدو إيديولوجي، ومع ذلك بقي سليما - ولله الحمد- لم تمسسه جرثومة شر، فوقاه الله منها، فالمغرب بلدنا، شعبنا، أسرتنا الكبرى، هو بمثابة ذلك السابح الذي ألقيناه في الشتاء في ماء مثلج، ومع ذلك خرج من تلك السباحة سليما معافى صحيحا قويا، ويحمد الله على قوته وعلى استمرار قوته.

فالنظام العالمي من ناحية المعاملات خرج عن السبيل، والنظام العالمي من الناحية التجارية أيضا خرج عن السبيل، والعالم من الناحية الخلقية كذلك خرج عن سبيل، ونحن في هذا الخضم من المتناقضات نحافظ على أصالتنا، ونظامنا، وسلامتنا وطمأنينتنا، ونحارب لأجل تحقيق وحدتنا الترابية، ونجابه جميع المشاكل المحيطة بنا دون أن يمسنا ضرر أو يلحقنا نصب أو تعب.

فلنحمد الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، ولننظر إلى المستقبل، فالمستقبل بالنسبة للديمقراطية مستقبل لا ينبئ بخير، لأن الديمقراطية وحماية حقوق الجماعات والأفراد لا تتأتى إلا إذا كانت الحاجات كافية، والإمكانات كذلك كافية، أما نحن فنعيش في عالم تتضاءل امكاناته وتكثر حاجاته، فإذن كلما قلت الإمكانات كنتم على بصيرة تامة مما هو ضروري ومما غير ضروري.

فإذن كلما قلت الإمكانات، وكثرت الحاجات، وارتفع ثمن الطاقات، وجد الفرد هناك مطية أو سببا ليتنكر لمبدئه، وليقنن وليحدد الاستهلاك، وكلما حدد الاستهلاك حددت الحريات، كلما حددت الحريات حددت الديمقراطية، فعلينا إذن نبقى في بلدنا وفي قارتنا وفي البحر الأبيض المتوسط كيفما كانت الظروف والملابسات، كيفما تقلصت حرية التحول الفكري للقيادات- حماة للكرامة البشرية، حماة للحرية، حماة لأبنائنا وأبناء أبنائنا حتى نطمئن على أنهم إن خرجوا في الصباح سيمسون بالليل وسيلتقون مع ذويهم في بيوتهم آمنينن محفوظين سالمين.

وهذا لا يتأتى إلا إذا تحلى الإنسان- وبالأخص من له المسؤولية تنفيذية كانت أو تشريعية- بالفضيلة أولا وبالإخلاص ثانيا، وبالاحترام للمعتقدات ثالثا، فإذا كنا إذن مجندين من الناحية الفكرية، ومتحلين من الناحية الخلقية بهذه الأخلاق- وإنما الأعمال بالنيات- فلي اليقين أن المغرب في هذا القرن، أو فيما يتبعه من القرون، سيبقى قادرا على أن يأخذ المبادرة وزمام الأمر، ولا يفلت من يده إلا ما أراد، وأن يبقى محافظا على ما أراد واختار من الأخلاق والصفات والاختيارات، وهذا مناط بنا جميعا.

علينا أن نكون مدرسة حية كل في فلكه وفي مهمته، وفي نوعية استخلافه، علينا أن نبقى مربين وأن نحارب هذا التناقض- الذي ستعيش فيه الأجيال المقبلة- بين العلم ووفرة العلم والطموح ومشروعية الطموح والحاجات ،وضرورية الحاجات، والإمكانات والطاقات، وتقلص الطاقات والإمكانات.

ولا يمكننا أن نسيطر على هذه وتلك إلا بالرأي والروية، أما الآخرون فسيحاولون أن يوفقوا بين المتناقضات بتحديد الاستيراد من مواد وتحديد استهلاك الحاجيات، وتحديد استهلاك الحريات.

هذه شعبي العزيز وحضرات السادات، بعض الأفكار التي أردت أن أركز علها كلمتي لكم هذه السنة، علما منا بأنكم- ولله الحمد- كلما ازددتم احتكاكا بالحقائق اليومية وكلما حاورتم الحكومة وحاوركم الجهاز التنفيذي وتعلمتم تطبيقيا معنى الواقع ومعنى الانتظار، ليس الانتظار السلبي، بل الانتظار الإيجابي، حتى يمكننا الله سبحانه وتعالى من وسائل مطامحنا لنرضي شعبنا وضميرنا، ولا يتأتى هذا كله إلا في جو من السلم ومن حسن الجوار.

قال النبي صلى الله عليه و سلم :[ ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ]، وما يجري على الجوار في المدينة أو في الحومة يجري على الجوار الدولي، فالأحداث التي وقعت بالأمس في محاميد الغزلان، بمجرد ما علمنا أن السكان كانوا سالمين حمدنا الله على ما وقع [ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم]. فالحكومة الجزائرية والمسؤولون الجزائريون لا يجهلون موقع محاميد الغزلان، ويعلمون حق العلم أن محاميد الغزلان انطلق منها صوت والدنا رحمة الله عليه للمطالبة التاريخية المسجلة بأراضينا الصحراوية.

وهكذا يمكن للإنسان أن يتصور أن حكومة مسؤولة أخذت على عاتقها - ولا سيما بعد مؤتمر فريتاون الثاني- أن تهاجم المغرب في محاميد الغزلان، قلت لكم أنني سررت بعد ما علمت بهذا النبأ، وعلمت أن السكان كانوا كلهم سالمين، لماذا؟ لأنه بلغنا منذ شهر تقريبا أن الجهد العسكري للمرتزقة لن يبقى في الصحراء، بل سيبقى على الحدود غير المنازع فيها بيننا وبين الجزائر، فتمكنا من أخذ احتياطاتنا وعينا قائدا للموقع وأرسلنا القوات المسلحة هناك، وجندنا القوات المساعدة، ونحن الآن بصدد تسليح السكان والقبائل لكي لا تفاجأ عسكريا، ولم نفاجأ سياسيا، وتأكدنا أن هجوم المرتزقة هو مؤامرة ضد المغرب والجزائر معا، مؤامرة مما لا شك فيه، فلذا أرجو وأنتظر من المسؤولين الجزائريين من القاعدة إلى أعلى القمة، أن يأخذوا الدرس من هذه المحاولة، علما منهم ومنا أنه لا يمكن أن يزحزح المغرب أو الجزائر جغرافيا من موقعيهما، و ليتذكروا تلك الأيام وتلك السنين التي كان فيها محور الرباط الجزائر يحسب حسابه بالنسبة للقوات العظمى وبالنسبة للقارة الإفريقية والجامعة العربية، كان إذذاك لا تؤخذ قرارات في هذه المستويات إلا إذا سئل : ما نظر المحور الرباط الجزائر، أقول هذا وأنا أعلم أن شعبي الذي أعرفه، وأعلم نفسي أننا مستعدون للتضحية صباح مساء بصحتنا وراحتنا ودمائنا وأرواحنا ومالنا، وأن هذه الحرب التي لم نردها ولم نخطط لها سوف نواجهها ما أعطانا الله سبحانه وتعالى نفسا واحدا، سوف نواجهها حتى الاستشهاد أو النصر، ولكن وفي هذا العالم الذي تتقلص فيه الإمكانات، وتكثر فيه الحاجات، وتتضاعف فيه أثمان الطاقات، هل من المعقول أن نركب من الطرق إلا طريق الحرب؟.

بالطبع كما يقول الشاعر:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فهل يسع المضطر إلا ركوبها .

ولكن النظرة التي لنا في مستقبل إفريقيا الشمالية، وفي مستقبل المغرب العربي لما تحتوي عليه هاته الناحية كلها من خيرات باطنية وفلاحية وسياحية وصناعية وبحرية، لا يمكن جعله وسيلة للتآخي البشري، وللتساكن بين المسلمين الذين وحدهم الله دينا و لغة واعتقادا

حضرات السادة:

إننا ونحن نراجع خطبنا الماضية وجدنا- منذ سنتين مضتا، كنا بنينا كلمتنا لكم على الفضيلة، ومن الأسس الضرورية بل الحيوية لها تساوي الأشخاص بالنسبة للواجبات والالتزامات والحقوق، وكنا إذاك ركزنا على الفوارق الطبقية التي نراها في بلدنا حقيقة ضاربة الرقم القياسي حتى بالنسبة للولايات المتحدة وذلك بالإحصائيات.

إلا أننا لم ننسى هذا الموضوع، بل أمرنا حكومتنا لتنكب عليه وتدرس ما هو من أجهزتنا الاقتصادية الحكومية أو غير الحكومية يجب أن يقوم اعوجاجه أو نرجع به إلى طريق الصواب، وهذا سيطرح للمناقشة في السنة البرلمانية الحالية إما في هذه الدورة أو في الدورات المقبلة، إذذاك سنعرض عليكم هذا الموضوع، وستعرض عليكم حكومتنا برنـامجا لوضع خطة، لا أقول: إن الفوارق الطبيعية ستنمحي دفعة واحدة، ولكن لوضع خطة نموذجية إذا نحن تتبعناها في الهياكل الإدارية العمومية وشبه العمومية والخاصة، فسيصبح لبلدنا نوع من المساواة يمكن لكل أحد منا أن يقبله ويتحمله بل أن يرضى عنه، كما أن حكومتنا واللجن المختصة التي انكبت على مشاكل التعليم في أيام التهذيب الوطني بيفرن ستضع أمامكم في أبريل المقبل إن شاء الله من السنة المقبلة- برنامجا شاملا للتعليم، ولنظم التعليم لتتدارسوه علما منا بأن البرنامج في ميدان التعليم، ربما من شأنه أن يتغير كل خمس سنوات أو ست سنوات، فالبرنامج ليس هو الهدف ولا المطمح ولا تغيير الرؤى التي نريد أن نرى بها المغرب في سنة. 2000

أما الآن فسيعرض عليكم القانون المالي وستعرض عليكم اختيارات التخطيط، فعليكم رعاكم الله أن تعلموا أن الميزانية وهي ميزانية التسيير في الإمكان بل من المطلوب أن نكون فيها شيئا ما بخلاء، ولكن ميزانية التجهيز والتخطيط والبناء والتعمير أريد منكم أن تكونوا طموحين، ولكن بجانب الطموح أن تكونوا شغالين حتى تعينونا على إيجاد وسائل التمويل، ووسائل التمويل ليس التفكير فيها مقصورا على الحكومة وحدها، بل كل مغربي له تفكير وله تحليل وله معرفة بواقع بلاده وله أصدقاء وشركات يعرفها في الخارج، وله أرباب مال يعرفهم في الخارج، عليه أن يأتي بها، علما منا أن البلد المتخلف أو البلد الذي هو في طريق النمو لا يمكن أن يطير بجناحه وحده، بل علينا أن نراجع- وحكومتنا ستضع أمامكم مشروع قانون الاستثمارات الأجنبية- علما منا أننا إن أردنا المال الأجنبي الذي لا نحتوي عليه نحن ولا نكسبه، فعلينا أن نوطئ له، ونفرش له، وعلينا أن نستجلبه للتنقيب عن الطاقة لبناء مركبات الصلب والحديد لبناء السكة الحديدية من مراكش إلى الداخلة للقيام ببناء مراسي على جميع الشواطئ المغربية حتى لا نكون متخلفين بالنسبة للصيد البحري ولا للتغذية.

أجل، كل هذه برامج وكل هذه اختيارات، فحينما ستعرض عليكم نريد ألا تنظروا إليها من زاوية المبدأ، والمبدأ الوحيد الذي علينا مراعاته هو الآتي:

هل هذا القانون سينقص شيئا من سيادتنا أم لا؟

فإذا كانت القوانين مطابقة لرؤيتنا بالنسبة لسيادتنا، وحافظت لاستقلالنا السياسي والاقتصادي، فيجب الشروع في دراستها بكيفية نزيهة، أما إذا هي تناقضت مع استقلالنا وحريتنا وحرية تصرفنا في المجال الدولي، بالطبع أصبح ذلك الشرط شرط رفض أصبح شرطا للرفض وللسخط.

حضرات السادة المنتخبين:

هذه هي كلمتي إليكم، وفي الإمكان أن نتحاور هكذا لمدة سنة، لأن المغرب حقيقة يستحق الحوار المستمر الجدي الديمقراطي، ذلك الحوار الذي لا يخضع إلا للصواب، حوار لا يخضع للقهر ولا للغلبة، حوار يخضع للإقناع، حوار يخضع للمقاييس الوطنية الحقيقية والمـواطنة الإسلامية كما أرادها النبي صلى الله عليه و سلم.

وإذا نحن لم نتصف بهذه الصفات فكيف نكون جديرين بشعب يضحي صباح مساء بأبنائه في الصحراء، شعب يشهد كل يوم مآسي في أسرة من أسره، لأنه فقد فردا من أفرادها، ومع ذلك فإن شعبنا يقف وقفة الصبور المتحمل والمتحمس إلى جانب قواتنا المسلحة الملكية، وقواتنا الاحتياطية، وقوات الدرك، وقوات الأمن كلها يغذيها برجال، ولا نريد ولا نحب لهذه القوات إلا الزيادة في الاستشهاد التي تعني زيادة في التكريم، زيادة في التبجيل، زيادة في الحياة لشعبها ولو كانت حياة شعبها على حساب أرواحها.

فلنكن حضرات السادة المنتخبين في مستوى تضحيات شعبنا عسكريا ومدنيا، ولكن في مستقبل ما وراءنا وبالأخص وبكيفية خاصة في مستوى ما ينتظرنا من عز ورفاهية وتسالم وتساكن داخل بلادنا وخارجها، حتى نكون بالحق أولئك الذين استخلفهم الله.

" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا".

صدق الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله.