تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الرباط 12/10/1979 :خطاب صاحب الجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني بمناسبة افتتاح الدورة الأولى لمجلس النواب : السنة التشريعية 1979-1980

12/10/1979

الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول لله

حضرات النواب المنتخبين

في السنة الماضية، كنا بنينا خطابا إليكم على آية من كتاب الله العزيز، وفي هذه السنة رأينا أن نركز خطابنا هذا على حديث من سنة الني صلى الله عليه و سلم, وهو قوله: " المومن القوي خير وأحب إلى الله من المومن الضعيف " .

أجل المغرب القوى خير وأحب إلى الله من المغرب الضعيف، وأريد أن أطبق هذا الحديث على بلدنا المؤمن المسلم، حتى نرى فيه من معاني القوة ما هو سياسي وما هو تربوي وما هو اجتماعي وما هو عسكري ومادي .

المغرب القوي، كيف نرى مغربنا القوي في هذه العشرين سنة التي بيننا وبين القرن المقبل؟ كيف نرى مجتمعه؟ كيف نرى بيئته؟ كيف نرى تصرفه في خيراته وطاقاته وإمكاناته؟ كيف نرى المغرب يخطط لبنيه ولحفدته؟ كل هذا سنحاول أن نلم به بكيفية موجزة، تاركين لكم أن تضعوا طيلة السنة اللبنة بعد الأخرى، حتى تحللوا وحتى تخططوا وحتى تتمكنوا من أن تضعوا دون غلط أو زلل الحجرة الأولى لمغرب القرن الواحد والعشرين.

أولا: نريد مغربا قويا بمجتمعه، لا نريد مجتمعا أشل، ولا مجتمعا فيه القوي والضعيف، أو الجبار والمستضعف، نريد مجتمعا يعطي له ولجميع أفراده حظوظا متماثلة ليمكن لأفراده أن يخوضوا، جميعا غمار الحياة الجماعية بنفس الحظوظ ونفس الإمكانات ونفس الأسلحة . نريد مغربنا في أخلاقه وفي تصرفاته جسدا واحدا موحدا تجمعه اللغة والدين ووحدة المذهب، فديننا القرآن والإسلام، ولغتنا لغة القرآن، ومذهبنا مذهب الإمام مالك، ولم يقدم أجدادنا رحمة الله عليهم على التشبث بمذهب واحد عبثا أو رغبة في انتحال المذهب المالكي، بل اعتبروا أن وحدة المذهب كذلك من مكونات وحدة الأسرة.

نريد مغربا موحدا في صفوفه السياسة والنقابية مثلما هو اليوم، حتى يتمكن ذلك المغرب أن يقف سورا واحدا وحصنا منيعا أمام كل طمع من الأطماع، وأمام كل من سولت له نفسه أنه سيمكنه بجرة قلم، أو طلقة مدفع، أن يمحو من سطح الأرض ما خططناه منذ قرون.

نريد للمغرب أن يكون عزيزا على الله وحبيبا لله قويا في تخطيطه التربوي وفي تخطيطه الأسروي، إن آباءنا لم يتغلبوا على متاعب الدهر والتاريخ عبثا، آباؤنا وأجدادنا وجدوا أنفسهم منذ الرضاعة مسلحين في بيئتهم وبيوتهم بالأسلحة الآتية.

أولا: كانوا يفتحون أعينهم ويرون أسرتهم كلها تصلي وتصوم، وحينما يبلغون سن الخامسة أو السادسة كانوا يذهبون إلى الكتاتيب القرآنية ليتعلموا احترام الكبير، والأخذ بيد الضعيف، و ليتعلموا ولو لم يفهموا القرآن، أن الله جبار، أن الله قوي، أن الله رحيم، أن الله مع من ينصره. إن أجدادنا وآباءنا لم ينموا كذلك في مجتمع كان فيه القوى والمستضعف، بل كان في بعض الأحيان وفي أكثرها المستخدم هو رب الدار بالنسبة لصاحبها.

إذن المغرب كون قوته أولا بمعتقداته، وثانيا ببيئته وتربيته، وثالثا بثقافته، ثقافته لم تكن تلك الثقافة المبنية على خذ من هنا وهنا ، وقل هذا كتابنا، والثقافة المغربية، تلك التي أوصلناها إلى الغرب، تلك التي طبعناها بطابعنا، تلك التي حولناها إلى ثقافة مغربية تروج في الأسواق الفكرية، تلك الثقافة جاءتنا من الانفتاح على الخارج، لأن علماءنا وأساتذتنا رضي الله عنهم، كانوا في غالب الأحوال يتشوقون إلى الحج، ويذهبون إلى الشرق، فإما في الذهاب وإما في الإياب يطوفون ببيوت العلم وبالكليات وبالجامعات، بل لا يكتفون بإفريقيا والجزيرة العربية، بل منهم من جاب آسيا وصحراءها ووصل إلى تخوم روسيا والفرس وإلى أبعد من ذلك.

فثقافة المغرب لم تكن أولا ثقافة منكمشة مغلقة، أو مكورة على نـفسها وفي نفسها، بل كانت ثقافة تأخذ وتعطي وربما تأخذ أولا وتعطي ثانيا، وكانت ثانيا ثقافة بطابع كل ما أوجدته من علم وعرفان وعلم حضاري معماري وثقافي وديني ورياضي،بطابع خاص.

مقومات المغرب، ذلك المغرب الذي نريده قويا حتى يكون أحب إلى المغرب الضعيف، كان يعطي دائما دروسا- وبالأسف- نرى أن الناس نسوا تلك الدروس.

فمن القدم إلى اليوم لم يتفكك الصف المغربي أمام خطر يهدده مثلما يتفكك الآن بنسيان هذا الدرس، ولكن الناس- والعياذ بالله- لم يريدوا ولا يريدون أن يستفيدوا من هذا الدرس.

فالمغرب رغم اختلاف أنواع سكانه، وهذا ما يجعلني اعتبر أن المغرب من أجمل البلاد ومن أخصبها، إن سكان الريف ليسوا سكان الشاوية، وسكان الشاوية ليسوا سكان الحوز، وسكان الحوز ليسوا سكان المغرب الشرقي، وسكان المغرب الشرقي ليسوا سكان الأطلس المتوسط، والأطلس المتوسط ليس الأطلس الكبير، والأطلس الكبير ليس هو الأطلس الصغير، وسوس ليس هو الصحراء، فكل له طابعه الخاص، وكل له عبقريته الخاصة، وكل له مواهبه، وكل له مشاربه، وكل له مذاهبه، ولكن حينما يوضع على بساط المناقشة أو المذاكرة أو حتى على التخيل المس بالإسلام أو بالسنة كان المغاربة يحاربون من أجل دينهم وضد الشعوذة، وحينما تكون المسألة تمس بكيانهم وحدودهم وكرامتهم يقومون كرجل واحد، وحينما كانوا يسمعون الاستغاثة: وامغرباه، كانوا يطيرون، أو أقول يسبحون ليصبحوا بجانب من استغاث بهم حتى يجعلوا كلمة الله هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى.

المغرب القوي الأحب إلى الله اكثر من المغرب الضعيف هو الذي ستصنعونه بأيديكم، حضرات السادة، ستصنعونه، لأن القوانين تنقسم إلى قسمين: منها ما يعطي أكله في الحين، ومنها ما يعطي أكله على عشرات السنين، فسواء كانت نتيجة تدبيركم وتفكيركم ومداولاتكم آجلة أو عاجلة فستكون تبعاتها عليكم وعلى مغرب الغد، ذلك المغرب الذي نريده قويا ليكون حبيبا إلى الله. فستعرض عليكم في هذه الدورة عدة مشاريع، منها ثلاثة مشاريع تقدم إليكم من طرف الحكومة، تتعلق بكيفية قريبة جدا بالموضوع الذي طرقناه في السنة الماضية.

أولا: مشروع يخص تعديل النظام الجبائي، ذلك النظام الذي سيجعلنا أمة وسطا، ذلك النظام الذي سيحاول- أقول سيحاول لأن عمل الإنسان لا يمكن أن يكتسي تماما بالسلامة من الأغلاط والأخطاء- أن يجعل من ذلك الفرق الطبقي كالهلال عند ولادته، لا كالقمر المقمر .

ثانيا: مشروع القانون الثاني يتضمن كذلك- وأقول هنا وأنا أعلم ما أقول- النظر في إعطاء المنح لكل واحد من الطلبة والتلاميذ المغاربة، وهذا كذلك من القضاء على الفوارق الطبقية

ثالثا: مشروع قانون سيطالب المثرين المغاربة جميعا أن يؤدوا- زيادة على الضرائب- الزكاة، تلك الزكاة التي سيذهب ريعها لا في الموظفين ولا في البذخ ولا في الرخاء، بل ستوزع سنويا على الجهات أو الأقاليم لتنهض بمشاريعها الاجتماعية والاقتصادية.

ومشاريع القوانين هذه ركزت عليها هنا دون الأخرى، لأذكركم بأنني لم أنس خطابي في السنة الماضية وأن توجيهاتي كانت دائما للحكومة حتى تهيئ مشاريع قوانين ترمي إلى أن تجعل منا تلك الأمة الوسط لا إفراط ولا تفريط.

حضرات السادة :

المغرب القوي الحبيب إلى الله، هو المغرب الذي سيمكن نفسه من حمل كتاب الله ورسالته وأخلاق نبيه إلى غيره، ولن نحملها إلا بالعقل والتعقل، والعلم والمعرفة، والإشعاع الروحي والبشري والتسامح والتساكن.

فنشر كلمة الله بالقوة وبالسيف فات عليها الأوان.

أولا: لأن ديننا لا يحتاج إلى إكراه، لأنه محبب إلى كل ذي عقل وكل ذي تمييز .

ثانيا: لأن الإسلام هو دين أخلاق قبل أن يكون دين عبادة، وإذا كانت هناك ديانة تدين بالتسامح فهي الإسلام، فالإسلام لم يجبر قط نصرانيا أو يهوديا على اعتناقه، بل كان يكتفي منه ببعض المكافآت أو الجزية، لماذا؟ لأن عندي - شخصيا- أ ن مقياس الحضارة هو التسامح إذا تمكنت من أن تعيش أخا مع جارك وأنت على غير ديانته تمكنتما جميعا من أن تتعايشا ومن أن تخلقا مشاريع لحكومتكما، فأنتما إذن المتسامحان المستكملان لعنصري الحضارة وعنصر العلو الفكري.

فالتسامح عندي هو الحضارة والتسامح هو فلسفة الإسلام :

المغرب القوي أريد أن يكون حبيبا إلى الله بإعطاء شهدائه ودمه في سبيل حريته وكرامته دون حصر ودون بخل، بلدنا بلد معطاء، يعطي الأكل والدواء والسكن والتعليم، ويعطي الدم والشهداء، من الجولان إلى سيناء إلى صحرائنا، هذا نوع من القوة، أن يجد المغربي في نفسه الطمأنينة، وأن يجد في نفسه الرغبة في الاستشهاد ولو على بقاع غير بقاعه، هذا يدل على أن قوة إيمانه تجعل منه ذلك البلد المعطاء الكريم بروحه ودمه، ذلك المؤمن القوي بروحه، وبإيمان أبنائه بأن بعد حياته شيئا آخر أكبر وأعمق وأعظم وأوسع من حياتنا كلها، ألا وهو الخلود، وإذا كان الخلود لله، وإذا أعطينا نحن دماءنا وأرواحنا للخلود فنحن أعطيناها لله، فمن أعطى شيئا للصفة أعطاها للمتصف بها، بما أن الدائم هو الله وكل من أعطى روحه للدوام أعطاها لله، وكل من أعطى تفكيره للدوام أعطاه لله، وكل من خطط للدوام، خطط لله، وكل من شرع للدوام شرعا لله. عليكم أن تعلموا أن المعركة في القرن المقبل سوف تكون معركة قاسية جدا. ليست هي المعركة التي تخوضها الدول المتخلفة ضد الدول التي بلغت شأنا كبيرا من الحضارة، لا، ستصبح حربا بين الدول المتخلفة بعضها مع بعض، من سيكون المخاطب لتلك الدول المتقدمة؟ لأن عدد الدول المتقدمة سيتقلص، الأزمة الاقتصادية التي نعانيها وسنعانيها ستضعف عدد الأقوياء، وستكثر من باب التبعية عدد الضعفاء، وأولئك الأقوياء سيختارون المخاطبين من الضعفاء، ولن يختاروا أي ضعيف كان، بل سيختارون الضعيف الذي له مؤهلات لأن يكون من النادي أو لأن يلعب بنفس فريقهم دون أن يغلب.
فإذن معركتنا ضد الجهل والتخلف وقلة الإنتاج داخل بلدنا أو جهتنا ستصبح معركة ضد كسلنا أولا وضد المجموعة العالمية المتخلفة.
لهذا علينا أن نجعل من مغربنا مغربا حبيبا إلى الله، مغربا قويا، لا مغربا ضعيفا.
قوتنا في تاريخنا، قوتنا في بيئتنا وفي أسرتنا، قوتنا في تربيتنا، قوتنا في القضاء اكثر ما يمكن على الميز الطبقي، قوتنا في وحدتنا للدفاع عن ديننا ومقوماتنا وبلدنا وسيادتنا، قوتنا في حسن التخطيط والتدبير، قوتنا في تواضعنا، على كل واحد منا أن يعتقد أنه لم يولد عالما ولن يموت عالما، لأن العلم لله، على كل واحد منا هنا أن يعلم أنه إذا كان له ما يعطي فإن ما سيأخذ اكثر بكثير مما يعطي.
واعلموا جميعا وفقكم الله أن أبناءكم سيرثون اسمكم ولكن ليسوا ملزمين بأن يرثوا انتماءكم السياسي أو النقابي، سيرثون جنسيتهم المغربية وسيرثون ما ستخلفونه لهم من معدات فكرية وروحية ومادية.
حضرات السادة: اعتقد شخصيا أن السنة المقبلة ستكون سنة حاسمة بالنسبة للسياسة العالمية، وبالأخص ستكون حاسمة بالنسبة لبعض الدول التي أرادت أن تبقى على طابعها الأصيل، والتي قررت أن لا يلحقها المسخ والتي قررت أن تشق طريقها ضد كل من يعارضها، والمغرب من جملة هذه الدول، فنحن نعرف مطامحنا ونحاول أن نتصور بدقة أكثر ما يمكن من أهدافنا، لأن المطامح شيء والهدف شيء، المطمح هو فلسفي روحي خلقي، والهدف هو علمي هو رياضي، الهدف هو بمثابة نقطة، المطمح هو بمثابة أفق، فإذا نحن حصرنا مطامحنا ونقطنا تمكنا إذ ذاك من أن نسكت ما يفرق بين هذا الفريق وذاك، وبين هذا التيار الفكري وذاك;المهم أن نتفق على حد أدنى عام للجميع، وإذا نحن اتفقنا انطبق علينا قول النبي صلى الله عليه و سلم :
" ما اجتمعت أمتي على ضلالة "، والأمة هنا مجتمعة ومكتلة.
هذه حضرات السادة كلمتي إليكم، وتوجيهاتي للسنة المقبلة، في إمكاني نظرا لما أجد من حب عميق ووطنية دائمة مستمرة لبلدي أن أبقى أمامكم الساعات والساعات، ولكن خير الكلام ما قل ودل، وأظن أنني وصلت إلى أعماق أفئدتكم، واخترقت الحواجز فيما إذا كانت حواجز المنطقية أو التفكير في أدمغتكم، المهم هنا إذا كنا كلنا متفقين على أن المغرب القوي عزيز عند الله وأحب إلى الله من المغرب الضعيف، فعلينا أن نختم كلنا هاته كلمتنا مخلصون في دعائنا.
ربنا اجعلنا من الذين قلت فيهم وقولك الحق:
" من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا " .
وفي الختام سنقف ونقرأ الفاتحة ترحما على أرواح الشهداء من قواتنا المسلحة وقواتنا المساعدة ورجال الدرك ورجال الأمن والمدنيين الذين بذلوا وأعطوا والذين أثقلوا كاهلنا، فإذا هم رصعوا جبيننا وهامتنا بالفخر والفخار فقد أثقلوا كاهلنا في وقت واحد بواجب الرعاية للأمانة والسير على المحجة. رحمهم الله سبحانه وتعالى وأسكنهم فسيح جناته.