تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الرباط 13/10/1978 :خطاب المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للبرلمان :السنة التشريعية 1978-1979

13/10/1978

الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
حضرات السادة النواب:

في السنة الماضية اقتبست خطابي من آية قرآنية، وقد حاولت أن أقتبس اليوم خطابي من آية أخرى قرآنية أخرى كريمة.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون)، وإنني لأعتبر هذه الآية وكأنها أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لتكون لكم نبراسا و تنير لكم معالم الطريق التي عليكم أن تسلكوها، فأنتم المنتخبون مهمتكم المراقبة، ولكن يا ترى من سيراقب المراقبين؟ : الله ورسوله والمؤمنون، فمراقبة الله سبحانه وتعالى لكم هي مراقبة الضمير حينما يرجع كل واحد منكم إلى بيته، وحينما يتساءل هل أديت الأمانة؟ وهل قمت بالواجب ؟ وهل كنت في مستوى الثقة الموضوعة في؟ بل هل كنت أمينا عندما شرحت أو بينت أو فسرت مطالب الذين انتخبوني واختاروني؟ هذه مراقبة الله بمعنى مراقبة الضمير،فسيرى الله عملكم ورسوله أو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا وهو المسؤول الأعلى في قمة المسؤوليات في البلاد وهكذا يتحقق ما قلت لكم دائما كجهاز تشريعي أو تنفيذي، إن فصل السلط ضروري وواجب، ولكن لا يجب أن يفهم في المستوى الأعلى للمسؤولية.

فمراقبة من استخلفه الله في الأرض ليكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة على السلطة التنفيذية وعلى السلطة التشريعية. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) المؤمنون هم الجماعة التي شخصت مشاكلها ضيقة كانت أو كبيرة، محلية كانت أو شمولية، خاصة كانت أو عامة. مسؤولية الذين وضعوا ثقتهم ووضعوا آمالهم ووضعوا مسؤولية النصح بين أيديكم.

وهكذا نرى في كتاب الله العزيز أن كل من قلده الله مسؤولية تشريعية أو تنفيذية، لابد أن يخضع إلى مراقبة، مراقبة الله، ثم مراقبة من ولاه الله أمور المسلمين، ثم مراقبة المنتخبين، وهذه المراقبة لا يمكن أن تكون ذات جدوى إلا إذا كان موضوعها معروفا وملموسا، مراقبة أي شيء مراقبة أي إنجاز، مراقبة أي هدف.

إذا ما بقينا سائرين على ما سرنا عليه سوف نرى مجتمعنا متفككا:

إن المشكل الأساسي لكل دولة اليوم، ونحن في منعطف الطرق، سواء كانت دولة نامية أو في طريق النمو هو أن تختار بكل علم وتمحيص ومعرفة بالعناصر، أن تختار مجتمعها، وماذا تريد أن يكون من مجتمعها، في المستقبل.

إننا ولا أخفي عليكم، إذا بقينا سائرين على ما نحن سائرون عليه، سوف نرى مجتمعنا متفككا بين ضعيف كل الضعف وبين غني وقوي كل الغنى والقوة. وذلك التفكك سيخلق فجوة ثم تصبح الفجوة هوة، ثم ينقلب الأمر إلى ميز طبقي لم تكن بلادنا تعرفه في الماضي البعيد ولا في الماضي القريب. مجتمعنا كلما زدنا سنة أو سنتين نرى أن أسفله يزيد ابتعادا عن أعلاه، وذلك لأننا حينما نضع القوانين تكون نياتنا صافية. ولكن حينما نريد أن نطبق تلك القوانين نخضع لرغبة فلان وتدخل فلان و للمحسوبية وللحزبية ولعدة عناصر ما جعل الله منها عنصرا حيا وجديا في كل دولة أرادت أن تبني مستقبلها بكيفية عادلة حتى تصبح سعيدة . يرمينا البعض أننا نعيش في مجتمع استهلاك، وكأنه بذلك يجعلنا في ضفة ويجعل آخرين في ضفة أخرى. أظن أن هذا كله غلط وتغليط. فحتى الدول الاشتراكية إذا كانت مخلصة مع نفسها، إذا كانت تخطيطاتها قيمة وصحيحة، وإذا كان إنجاز تلك التخطيطات يسير حسب المبتغى، لا بد أن تصل بمجتمعها إلى مجتمع استهلاك. فإما أن تخون شعوبها، وذلك باحتكار الرفاهية على طائفة من شعوبها دون طائفة فلا تصبح ديمقراطية ولا اشتراكية، ولكن تصبح فاشيستية، حيث أنها تكدس كل ما كسبت وكل ما أنجزت لفائدة الحاكمين دون المحكومين. وأما أن تدر خير منجزاتها ومخططاتها على جميع السكان وتصبح بذلك بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو مائة سنةـ فالزمن هنا ليست له قيمةـ هي نفسها مجتمع استهلاك.

فإذن إذا نحن وضعنا من جهة أن وسائل الإنجاز أصبحت أقوى من ذي قبل، وان وسائل الفلاحة سواء بالآلات أو بالأسمدة أصبحت تجعل الأرض تعطي أضعاف ما كانت تعطي، وإذا نحن زدنا على هذا أنه بأقل من خمس ساعات في اليوم من العمل يمكن للبشر أن ينتج الطاقة الفعالة، المنشئة الخلاقة، وجدنا كل مجتمع أراد أن ينهض بجد دون غش ودون احتكار الخيرات لطائفة دون طائفة عليه أن يعلم أنه سيصبح مجتمع استهلاك. ومجتمع الاستهلاك إذا كان مجتمعا يكرم الشخص البشري ويشخص ما وصل إليه بنو الإنسان من العلم والمعرفة إذا كان مجتمع الاستهلاك يظهر من آيات الله في خلقه، وذلك بإعطائه من سلطان العلم بإرادة الله لينتجوا ما ينتجون ويتقنوا ما يتقنون، عليهم أن يعلموا في آن واحد المخاطر التي تحدق بذلك المجتمع وبتلك المنجزات وبذلك التقديم.

وأظن أننا إذا أردنا أن ننظر يمينا وشمالا وبحثنا، جديا في الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية ولا أقول الاقتصادية والاجتماعية بل أربطها، الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التي تحيط بنا في الدول العظمى وفي القارات المتقدمة، نرى أن الولايات المتحدة هي التي تضرب الرقم القياسي في ذلك الفرق بين الغني والفقير، فلا أقرب في أية دولة أخرى من غني وفقير إلا في الولايات المتحدة، فدخل الفقير منهم ودخل المتوسط أو الغني كأنهم توأمان، ونرى في دول أخرى أن الفرق بين الغني والفقير كأنهما ضفتان لا ضفتا نهر بل ضفتان تلك الضفتان اللتان تحيطان بالمحيط الأطلسي.

إذن النتيجة من هذا كله هو أن التقدم الاقتصادي والعدالة الاقتصادية لا يمكن أن يكونا موجودين إلا في عالم تسوده الحرية وتهيمن عليه الديمقراطية، لأن الحرية تمكن كل واحد من اختيار أحسن الطرق، والديمقراطية تعطي حتى للقليل الضعيف حق التعبير وحق تصوير مشاكله وعرضها على المسؤولين، ومن جملة المسؤولين أنتم حضرات السادة المنتخبين، أنتم الذين تحت مراقبة الله ورسوله ومراقبة المؤمنين.

لذا سنعرض عليكم قريبا خطتنا الثلاثية ولن يمضي عليها بضعة أيام حتى نعرض عليكم القانون المالي للسنة المقبلة.

وضعنا هذا التخطيط ووضعنا هذا القانون وحاولنا أن نعطي لكل واحد منهما الصبغة الفنية صبغة الأرقام التي سوف تسهل عليكم الاختيارات. ولكن الصيغة النهائية، الصيغة التي ستطبع في الجريدة الرسمية، الصيغة التي سيقرأها القارئون ويحللها المحللون في العالم أجمع ليروا ويفهموا من خلال القانون المالي ما هي فلسفتنا؟ وما هي أهدافنا؟ وما هي الأخطار الطبقية؟ وأؤكد على هذه الأخطار الطبقية التي نريد أن نتجنبها، تلك الصيغة هي بيدكم فحاولوا إذن أن تكونوا كما قلت لكم في السنة الماضية- أمة وسطا - حاولوا أن تجمعوا بين الضرورة والفضيلة، وحاولوا أن تجعلوا الأمل يتساكن مع الممكن.

عيد الوعي والمسؤولية:

حاولوا أن تجعلوا من الحاجيات ومن المؤملات توأمين يعيشان في سلم اجتماعية واقتصادية، وقبل كل شيء فكرية وسياسية، و لا سيما أنني وفي هذا اليوم، يوم الجمعة، ولو كان في الإمكان أن يسمى أو يعطى اسم ليوم افتتاح البرلمان لسميته عيد الوعي والمسؤولية ، ففي هذا اليوم الذي هو في نفسي وفي قرارة نفسي ووجداني أحس به إحساسا وشعورا عميقا بأنه عيد المسؤولية وعيد الوعي، يسرني أن أقول لكم أن الله سبحانه وتعالى حينما وضع أمامنا اختيارات وبالتالي مشاكل- وهنا نرى جلاله- وضع أمامنا آمالا حقيقية محسوسة علمية، وهذا هو جماله، من أنه سبحانه وتعالى في الأشهر الثلاثة من السنة المقبلة سيدفق علينا خيراته المعدنية من النفط وغيرها.

سنخرج كميات من النفط سوق تسد حاجاتنا:

وهكذا يمكنني أن أقول لكم: إن يوم ثالث مارس المقبل إن شاء الله يوم عيد العرش- سنكون بعد باسم الله الرحمن الرحيم، سنكون قد وضعنا أول معول في الأرض وسنكون قد استخرجنا منها ما أعطانا الله من كميات نفطية أقل ما يمكن أن يقال عنها، والأقل وبالتشاؤم الأكبر، أنها سوف تسد ولا شك حاجياتنا وحاجيات الاستهلاك الداخلي.

أما إذا نحن اكتشفنا أكثر فإنني أرجو منكم أن تحلموا معي شيئا ما، وفي بعض الميادين الحلم واجب، فلنفرض أننا وجدنا من الكميات ما يكفينا وما سيمكننا من التسويق فانظروا إلى الخريطة فيمكننا أن نقول أن المغرب حر و نفطه حر سيكون نفطنا حرا من الناحية الإستراتيجة والجغرافية، حر بالنسبة للتسويق لأوروبا ولأمريكا.

فعليكم حضرات السادة أن تتصوروا هذه الصورة وتتخيلوها فإذا لم تقع فسنكون قد قضينا مدة سعيدة مع خيال سعيد، وان هي حقيقة أصبحت، سوف لا نفاجأ بوسائل كبيرة وتفكير قصير، لذا حضرات السادة أريد أن تروا مستقبل المغرب وبالأخص أن تنظروا إلى هذه السنة بالنظرة الآتية.

حملة فلاحية تقنية وعلمية حتى نتمكن من استغلال أرضنا استغلالا كاملا كانت الأمطار كافية أو لا، وهذا في الإمكان إذا نحن استعملنا ما يسمى " دراي فارمر " وانظروا بعد ذلك إلى شهر مارس وانتظروا ما سيأتي به الله فإذا نحن جندنا أنفسنا للعمل الحقيقي ووطدنا عزائمنا لاستقبال ما سنستقبل من الوسائل ولكن كل وسيلة هي في الحقيقة عبء، فلا يعني أن الوسائل أو الأرزاق هي بمثابة لعبة الأرزاق والغنى عبء وخطر في آن واحد، عبء لأن علينا أن نعرف كيف نصرف خيراتنا، وخطر لأن الحسادكثيرون.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:

اللهم كثر حسادنا

لا يوجد أي مغربي لا يعطي لمشكل سيادتنا وحرمة ترابنا أهميتها القصو.ى

أظن أنه من الاطناب أو الحشور أن أخاطبكم في مشكل سيادتنا وحرمة ترابنا وقداسة حدودنا فإني أعلم أنه لا يوجد أي مغربي مغربي كيف ما كان لا يعطى لهذه القضية أهميتها القصوى وخطورتها المستمرة لأن الخطورة، خطورة حدود المغرب سوف تكون خطورة مستمرة نظرا لموقعه الجغرافي، نظرا لبوغاز طارق نظرا لطول شواطئه، نظرا لخيراته، نظرا لتنوع طاقاته: بترول أو يرانيوم من الفوسفاط، لا تنسوا أن مسكالة ربما أصبحت أكثر من خريبكة من ناحية كمية الفوسفاط، لا تنسوا أن مدخراتنا لاستخراج 25 مليون طن سنويا ستمكننا من أن نستخرج الفوسفاط لأكثر من 1600سنة، لا تنسوا أن ذلك الفوسفاط يعطي اليورانيوم في آخر التفاعلات، لا تنسوا أن الفوسفاط في آن واحد يذر الخير في الأرض ويخرج اليورانيوم، لا تنسوا أن النفط سينقضي وأن الفوسفاط سيبقى.

هذه كلها عناصر تفسر ما قلته لكم من أن المسؤولية جسيمة والخطورة مستمرة، فإذن ماذا هو عملكم وعملنا جميعا؟ عملكم وعملنا جميعا أن نكون في تفكيرنا وسلوكنا مع أصدقائنا مع أبنائنا مع أسرتنا بمثابة الأستاذ الملقن الذي يلقن الدرس، درس الحذر درس اليقظة، درس الروح المجيدة صباح مساء ومساء صباحا.

إن الأرض يوما ما سوف تضيق على الناس بما رحبت وسوف ترجع البشرية أو بنو الإنسان إلى ذلك التفاعل البيولوجي الذي يجعل من الحروب ضرورة من الضروريات العالمية، فعلى المغرب في ذلك الحين أن يبقى تلك القلعة،القلعة الفلسفية، قلعة التمدن، قلعة المدنية، قلعة المدرسة المحمدية تلك التي تعلمنا فيها، [[ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ]] تلك القلعة التي في الشكليات تكون متمدنة أكثر ما يمكن ولكن حينما تصل الأمور إلى العمق وإلى الكيان وإلى الكنه لا تتراجع ولا تعرف النكسة ولا تعرف التنكر لمبادئها.

ونصيحتي لكم في هذا الباب جميعا، إذا أنتم وجدتم شيئا ما من الوقت أن تقرأوا كيف كانت مفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وما تحمله من الشكليات دون أن يخل ولو بقلامة ظفر بما كان عاتقه من مسؤوليات وواجبات.

فإذا أنتم طالعتموها- وتشبعتم بها سوف أجد في كل واحد منكم وزيرا للخارجية يعمل في حزبه وفي شعبته وفي الحقل الدولي وفي أصدقائه في الخارج.

حضرات السادة:

ربما أطلت عليكم ولكن حاولت أن أجعل من حديثي هذا حديثا مبنيا على أخلاق، أخلاق معاملات وعلى حقائق وأرقام وعلى آمال وعلى مخاوف.

حاولت إذن أن أجمع في كلمتي العالم الذي نعيشه: الحقائق المعاملات، الأحلام، الحقائق، المخاوف، هذا عالمنا منذ خلق الله البشرية.

أملى في الله سبحانه وتعالى أن يجعل منكم أولئك الأبناء البررة الذين إذ هم وقفوا أمام مواطنيهم المؤمنين وأمام خليفة رسولهم أو أمام ربهم أن يكونوا فرحين سعداء بما عملوا وبما رآه الله ورسوله و المومنون.

والسلام عليكم ورحمة الله