تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الرباط 13/10/1995 : خطاب المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 1995-1996

12/10/1995

الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول لله وآله وصحبه

حضرات النواب المحترمين الأعزاء

ها نحن اليوم نفتتح دورة أكتوبر لمجلسكم الموقر هذا حسب مقتضيات الدستور، وقد ألفنا كل سنة أن نتوجه إليكم بالخطاب لعل وعسى أن نرسم جميعا ومعا للأشهر المقبلة توجهات، ولنتبادل نظريات، ولنأخذ بنفس عين الاعتبار المشاكل التي تهم بلدنا.

واليوم، جريا على عادتنا، سنقول اللهم اشرح صدرنا ووفقنا وافتح أذهاننا لما سنكون نحن بصدده جميعا، ولما سيكون موضوع خطابنا.

إن موضوع خطابنا يرتكز قبل كل شيء على ملاحظة لا بد أن نأخذها كما يجب، لأنها ملاحظة زمنية، فلم يبق بيننا وبين القرن المقبل إلا خمس سنوات، وقد قررنا ـ ولي اليقين أن قرارنا هذا سوف يلقى صدى حسنا ومستحسنا لديكم ـ قررنا، بدون أن نرجع إلى فكرة التخطيط الأيديولوجي السياسي، أن ننهج مخططا أولا من سنة 1995 إلى سنة 2000 ومخططا خماسيا من سنة 2000 إلى سنة 2005، لماذا؟ لأنني شخصيا لا أخشى على العالم في السنين المقبلة، وتحليلي هذا ربما يكون خاطئا ـ لا أخشى حربا عالمية ولا حتى حربا قارية أو جهوية، نعم سنرى هنا وهناك حروبا صغيرة محدودة كما يجري في أفغانستان مثلا أو في يوغوسلافيا، ولكن الذي أخشاه على عالمنا هو حرب تجارية اقتصادية ونقدية ستزلزل الأنظمة وتخلق تصدعا لدى الدول، وسيكون من شأنها محو كل ما بني،وتدمير كل ما شيد، ذلك أن العالم قرر في السنة الماضية أن يؤسس منظمة عالمية للتجارة سوف تقلب التجارة رأسا على عقب وسوف تفرض على من يطبقون سياستها أن يقوموا هم بأنفسهم بانقلاب في عقليتهم وتفكيرهم ، ثم أن المغرب مقبل على شراكة مع أوربا، ونحن على وشك إبرام اتفاق يرضي مطامحنا، ولكننا كجميع الاتفاقات التي تخضع للمفاوضات التي فيها أخذ وعطاء لم نصل إلى كل ما كنا نريد، ولم يصل الجانب الآخر إلى كل ما كان يريد، بل وصلنا إلى حد يمكن أن نقول معه اننا إذا نحن ارتقينا فوق الأربع سنوات المقبلة فإن المغرب سيكون قد ربح سياسيا وبحريا وفلاحيا وتجاريا أرباحا كبيرة، وعلينا أن نرى الشراكة على عشر سنوات أو ما يزيد على العشر سنوات.

فهذه العناصر كلها، وهذه التقلبات كلها، وهذه المخاوف كلها، هي التي جعلتني في شهر يونيو أطلب رسميا وكتابة من مدير البنك الدولي، أن يقوم بتحليل، وراديوغرافية نزيهة ودقيقة للعناصر الثلاثة التي تكون اهتمامكم واهتمامي يوميا، العنصر الأول هو مشكلة التعليم، والثاني هو إصلاح الإدارة وجعلها قادرة على السير بالسرعة والجدية والإيجابية التي تمكننا من أن نساير العصر، وثالثا رسم استراتيجية اقتصادية ومالية وتجارية للسنوات المقبلة حتى نتمكن من أن نكون في صف المتنافسين والسباقين.
وقد قلت له ـ وستقرأون ذلك في رسالتي ـ أرجوك أن تعطيني جردا حقيقيا موضوعيا يكون مصحوبا بأرقام وبمقارنات مع دول أخرى في مستوانا وصلت إلى طور الوثبة والقفزة حتى نرى لماذا لم نثب ولماذا لم نقفز.

وقد جاء الرد قبل خمسة عشر يوما تقريبا، ويهم هذا الرد محور التعليم ومحور الهيكل الإداري بأكمله، وجاءت في المقدمة التي سوف ترونها قريبا الاستراتيجية الاقتصادية والنقدية، أما التقرير الأخير حول النقطة الاقتصادية والتجارية والنقدية فسوف يأتي في الأيام المقبلة.

لقد قرأت هذا التقارير، فوجدت فيها فصاحة موجعة وأرقاما في الحقيقة المؤلمة، ومقارنات تجعل كل ذي ضمير لا ينام.

وبعد الأخذ والرد مع نفسي شخصيا توصلت إلى اقتناع، وهو أن مثل هذه المسؤولية لا يمكن أن تنحصر في رجل واحد، بل ولا يمكن أن تلقى على عاتق حكومة كيفما كانت، بل لا يمكن لأي حزب من الأحزاب السياسية أو الهيئات النقابية وحدها إيجاد حلول وطريقة للوصول إلى الأهداف، لذا قررت مع نفسي وضميري أن أضع هذا التقرير الشامل بين أيديكم، والنسخ هاهي معي، وسأسلمها إلى رئيس مجلس النواب ليسلمها إلى جميع الفرق الموجودة هنا، وإلى جميع المنظمات المهنية والنقابية.

وأنا أريد بحثا وحوارا وطنيا كاملا وشاملا في هذه المواضيع، وهذا ما أرجوه منكم وانتظره منكم، وأريد أن يقرأ كل مغربي مغربي قادر على قراءة هذه التقارير وسأعطيكم مثالا لتعلموا لماذا قلت أن الأرقام والتحليلات كانت فصاحتها فصاحة موجعة، فبالنسبة لقضية التعليم يقول التقرير إنه يوجد في المغرب أستاذ لكل ستة عشر تلميذا، والحالة أن عدد التلاميذ بالأقسام يتراوح ما بين خمسة وثلاثين تلميذا، وقد أعطيتكم هذا الرقم لأنه في الحقيقة مؤلم، بل صادم، وستجدون هناك أرقاما وأرقاما.
نعم كل واحد منا كان يعرف شيئا ما عن جهازنا الإداري وعن منهجيتنا في التعليم، وعن مماطلة الإدارة في التنمية الاقتصادية ولكن حينما تقرأون التقرير سوف تطلعون على ما لم تكونوا تعلمون.

فلذا ـ رعاكم الله ووفقكم ـ أرجو أن يكون هذا الموضوع شغلكم الشاغل خلال هذه الدورة، لقد قرأت في بعض الصحف البارحة واليوم مقالات تتساءل عما ستفعله هذه الدورة بعد مناقشة مشاريع القوانين التي هي لدى الرئاسة أو لدى الجميع، أن الشغل الشاغل لهذه الدورة ينبغي أن يكون هو هذا الموضوع.

ولن تكفيكم دورة واحدة ولن تكفيكم سنة واحدة، فأناشدكم الله والوطن أن تنكبوا على هذه التقارير حتى تتيقنوا أنه لابد لنا من تخطيط يجب أن يوضع للخمس سنوات الأولى لهذه العناصر الثلاثة " التعليم، والإدارة والاقتصاد " لنبدأ القرن المقبل بحلة جديدة، وعقلنة جديدة، ومناهج جديدة.

نعم من الممكن أن يقول البعض هذا شيئ قلناه، وكنا نعلمه، ولم نكن مسؤولين عنه لأننا لم نكن في الحكومة، طيب، ولكن سأجيب على هذه النقطة بجوابين: الجواب الأول هو أنه أمام جسامة الموضوع أعتبر مثل هذه الملاحظات صبيانية ولا سيما ـ وهذا هو الجواب الثاني ـ أنه إذا كان هناك جهاز تنفيذي فهناك كذلك جهاز منفذ، والجهاز المنفذ هو الموظفون، وبالأخص السامين منهم، وإذا حللت كل وزارة وزارة أو كل مكتب أو مصلحة عمومية أو شبه عمومية ـ وأنا أعرف بلادي والحمد لله ـ أجد أن أغلب أطرها ينتمون إلى المعارضة أو يتعاطفون معها، فإذن لا ينبغي أن نضيع وقتنا في البحث عن السبب والمسبب، فإذا كانت السلطة التنفيذية مقصرة فالأطر المنفذة لم تكن دائما نزيهة، وليس الموضوع موضوع نقاش كهذا، فمسائل مثل هذه أسميها بالصبيانيات، نحن أمام جيل جديد، وعهد جديد، فإما أن نبقى في السباق وإما أن نتدرج في الوراء يوما بعد يوم، فلهذا ـ حضرات السادة ـ أرجوكم أن تنكبوا على دراسة هذه الملفات، وسوف ترون أن النجاح في هذا المجال ليس بصعب المنال، فالمهم هو تغيير ما في أذهاننا والتغلب على الروتين والتسلح بالجرأة وبشيئ من الخيال، وهذه كلها خصال موجودة فيكم أنتم الموجودون هنا وفي أتباعكم، ومناصريكم، والمتعاطفين معكم وهذه إجمالا خصال كلها موجودة لدى الشعب المغربي خلافا لما يعتقد.

هناك بالطبع سلبيات تضغط على المغرب كسنة الجفاف وتسديد المديونية، سيما وأن سنوات 96 و97 و98 ستكون هي السنوات التي يجب على المغرب أن يدفع فيها أكثر، ولكن ما عدا هذين الميدانين فالحمد لله بلادنا ليست كما يتصورها البعض، بل ما زال فيها من الطاقة ومن القوة ما يجعلها تقف صحيحة، بل لتقوم بجهد أكبر وبخيال أحسن لتحسين وضعيتها وللخروج من الرتبة التي هي فيها إلى رتبة أعلا وأرقى.

وقبل أن أختتم خطابي هذا أريد أن أوجه لكم جميعا عتابا، وهذا العتاب هو من قبيل عتاب المودة، وهو أنني أخاطبكم إما مباشرة كما هو الشأن اليوم، وإما بخطاب ملكي كما هو منصوص عليه في الدستور، ولكن لم أتلق منكم قط أي خطاب، ولا أي مراسلة ولا أي سؤال، فبودي أن تطرح علي مشاكل الدولة من هذا الحزب أو ذاك، أو هذه النقابة لتقول أنا أتصور كذا وكذا فما هو رأيكم في كذا وكذا؟ وأن حالة هذه المنطقة تتطلب كذا وتتطلب كذا، أو التوجيه في سير هذا القانون أو فلسفته ربما يقتضي أن نرجع إلى هنا أو إلى هناك.

هذا كله يمكنني شخصيا أولا من أن أقرب الشقة بين المفكر والمنفذ دون أن أمس أبدا بمفهوم ومنطوق الدستور.

ثانيا: سوف يقال أنكم تعلمون رأينا من خلال تدخلاتنا في البرلمان، أو مقالاتنا في الصحف، ولكن التدخلات في البرلمان أو المقالات الصحفية ليست هي الخطاب المكتوب المدروس الذي يضع الحالة ويستفسر حول الحالة ويقترح حلولا بشأنها، وينتظر جوابا حول ما طرحه.
فمرة أخرى أقول لكم إن هذا عتاب داخل في الود والمودة التي تربطني بكم وتربطكم بي، والود يدوم ما دام العتاب.
إن لهجة هذا الخطاب اليوم ربما كانت خارجة عن لهجتي العادية، ولكن حضرات السادة اعلموا أننا في سباق ضد الساعة، وأقول لكم وأؤكد إنه ليس من السهل ولكن من الممكن القيام بهذه الإصلاحات على صعيد الأمد المتوسط على شرط أن ينكب عليها ويعيها الجميع.

وكم أريد أن تنشر صحفكم هذه التقارير حتى يقرأها الطالب، والتلميذ، والتاجر ورجل الأعمال، والفلاح، فالمسألة تهمنا جميعا وتهم الرأي العام المغربي بجميع شرائحه وأنتم تمثلونه هنا.

فأملي في الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل، ويجعلنا نقدم على مرحلة التخطيط الجديد بالفكرة الجديدة، والفلسفة الجديدة، وكما قلت لكم يجب أن نقدم على مخططين خماسيين، واعلموا حفظكم الله أن السنين تجري بسرعة لا مثيل لها. وآخر كلامي أقوله متوجها إلى الله نيابة عنكم وعني:

[وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعلني من لدنك سلطانا نصيرا]

صدق الله العظيم

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته