تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الرباط 14/10/1988 :خطاب المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 1988-1989

14/10/1988

الحمد لله الصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه

حضرات السادة :

ألفنا كلما افتتحنا دورتكم أن نتطرق إلى موضوعات الساعة ومشاكل الحال معتقدين أن عرضنا أمامكم واهتمامنا ومشاغلنا هي نوع من أنواع الحوار، ذلك الحوار الذي جعلناه قاعدة لنا وسننا لعملنا.

ففي الدورة الأخيرة كنا بكيفية استثنائية قد تطرقنا أمامكم إلى مشاكل خاصة داخلية بكيفية معينة، ومنذ ذلك الحين طرأ في الأجواء الخارجية ما طرأ من أحداث، علينا أن نستخرج منها العبر ونقوم المفاهيم حتى نتمكن من مسايرة العصر سواء على الصعيد الجهوي أو العالمي.

اننا حضرات السادة نعيش بشعور أو بغير شعور فترة هامة وحاسمة من تاريخ البشرية، ذلك أن النصف من العالم النامي ومنه السائر نحو النمو بدأ يأخذ منعطفا مهما وخطيرا جدا في أواخر هذا القرن، وأعني بهذا ما يقوم به اتحاد الجمهوريات السوفياتية بقيادة الرئيس غورباتشوف.

ان العالم بهذا سيصبح يعيش في نظام آخر ليس نظام تصادم أو اصطدام الحضارات وكيفيات المعيشة، بل في سباق لإسعاد بني البشر وللوصول إلى النمو والتقدم والحضارة في جو ـ وإن اختلفت فيه المذاهب والإيديولوجيات ـ حرم على نفسه استعمال الحرب واستعمال الدمار، مختارا قبل كل شيئ احتكاك تجربة بتجربة ومقارنة ايديولوجية ومذهب ومنهج باديولوجية ومذهب ومنهج آخر.

حضرات السادة:

نحن نعيش في قارة اختلفت أنظمتها، ونعيش في أسرة عربية اختلفت كذلك أنظمتها ونعيش داخل أسرة أكبر هي الأسرة الإسلامية التي تباينت كذلك أنظمتها واختياراتها، كما ننتمي إلى أسرة الدول غير المنحازة التي اختارت هي كالآخرين مذهبا من المذاهب واتجاها من الاتجاهات، فيجب علينا أن نكون واعين بالظرف الذي نعيشه، وعلينا أن نراقب باهتمام يومي مستمر التجارب والاجتهادات والجهود حتى نأخذ من هذا كله أحسن ما فيه، وحتى نتمكن كذلك من أن نأخذ اختياراتنا استقبالا لا على أسس نظرية فقط بل كذلك على تجارب ـ ونحن على أبواب القرن المقبل ـ ستمكننا من أن نجني أحسن الثمار من أحسن المذاهب لا سيما وان هذا السباق اصبح سباقا مثمرا ايجابيا ومنافسة بروح رياضية أول ما خلقت جوا عالميا للبحث عن السلام والتصالح، وهكذا نرى في جميع أقطار المعمور من أقصى غربها إلى أقصى شرقها جميع الذين كانوا متخاصمين أو كانوا متعادين كلهم يسارعون بما لهم من حسن ارادة وبما لهم من شجاعة إلى تحقيق السلم، ومن وراء السلم العمل المشترك لجميع أفراد هذا المجتمع البشري صغيره وكبيره قويه وضعيفه.

ومن حسن الحظ أن هذا الجو العالمي جو التصالح والتساكن، مكننا نحن كذلك من أن نقوم بتجربة حيوية وهي تجربة التضامن والتآخي والتعامل يدا في يد لبناء المغرب العربي من موريتانيا إلى ليبيا مرورا بالمغرب والجزائر وتونس.

وكما تعلمون حضرات السادة توصلت بدعوة لزيارة الجزائر بمناسبة انعقاد القمة العربية واعتبرنا أن تلك المناسبة كانت هي المناسبة لتطبيع العلاقات مع جارتنا، ومناسبة كذلك للمشاركة والإسهام مع اخواننا قادة العرب في تدارس قضايا الساعة ، وأخيرا كانت لنا كذلك فرصة ثمينة للقاء قادة المغرب العربي الذين ما سبق لهم ان اجتمعوا جميعهم، وقد قد انتهزنا هذا السفر لتطبيع علاقتنا مع الجارة، ولكن ليس ذلك التطبيع الذي يمكن أن يقال فيه أنه مشوب بنفاق أو بشيئ من الرياء ، لا فيما يخص المغرب، وأظن وهذا ما لمسته في صديقي وأخي فخامة الرئيس الشاذلي ابن جديد انه ليس من شيمنا أن نتعامل بالنفاق والرياء، ولا ادل على ذلك أنه حين وجودنا في الجزائر تمكنا بكيفية ثنائية وبكيفية حماسية من وضع لبنات لعمل ثنائي أو جماعي، منه ما تجلت نتائجه في بلاغات ولقاء واجتماع اللجن، ومنه ما ينتظرأن توضع اللمسات الأخيرة على مشاريعه للظهور إلى الوجود.

ومنذ ذلك الحين ـ ولله الحمد ـ ولجن المغرب العربي سواء في طرابلس أو تونس أو الجزائر أو الرباط أو نواكشوط، ومن هذه اللجن من قام بدراسة القضايا البشرية وقضايا الإستيطان وحقوق مواطن المغرب العربي الكبير، ومنها من قام بدراسة هيكلة تعاملنا وتعاضدنا في المستقبل وتحقيق اندماج أكثر ما يمكن من دواليب منافعنا المختلفة والمتبادلة ومنها من اجتمع للنظركذلك في الأمور المالية والجمركية وانتقال الممتلكات والحقوق بين دول المغرب العربي ومنها من اجتمع للنظر في الأمور الإقتصادية بكيفية عامة، وأخيرا منها من اجتمع في نواكشوط للتخطيط بكيفية جماعية للتعليم والثقافة وتكوين المواطن العربي أحسن ما يمكن ليكون مواطنا نافعا وناجعا.

وكل هذا كما قلت لكم أسفر عن قرارات وعن التزامات ، وأصبح لبنات ولبنات لا تنتظر إلا انعقاد قمة قادة بلدان المغرب العربي الكبير التي نرجو أن تجتمع كما هو منتظر إما قبل نهاية السنة الجارية أو في أوائل السنة المقبلة.

وبعد عيد المولد النبوي الشريف ستجتمع هذه اللجن كلها على أن ترى تلك اللجن ما نفذ وما لم ينفذ، وحتى تقوم بنقد ذاتي يعرض على العواصم لتتخذ في شأنه القرارات حينما تجتمع قمة دول المغرب العربي.

ومن هذا المنطلق حضرات السادة أريد فقط أن أنبهكم ولو أنكم لستم في حاجة لهذا التنبيه لأنكم أذكياء، ولكن من الواجب التذكير، لأن الذكرى تنفع المؤمنين، فلست في حاجة لأن أقول لكم كما قلت لأعضاء الحكومة وللجهاز التنفيذي : أنه يجب عليكم منذ اليوم حينما تفكرون وتخططون ان تفكروا لا للمغرب فقط بل أن تفكروا كذلك لأسرة أصبح أعضاؤها خمسة.

فالمنتظر من كل خطيب منكم سيقف بهذه المنصة ليناقش أو يعرض أو يعرب عن رأيه أن يكون تفكيره تفكير غير منحصر في الحدود المغربية بل شموليا يشمل افريقيا الشمالية وموريتانيا.

حينما نستعمل لفظ افريقيا الشمالية تبحث أعيننا بالطبع عن خريطة، فما هي إفريقيا الشمالية؟ وما وزنها بالنسبة للبحر المتوسط ؟ ان افريقيا تغطي كما تعلمون النصف الأكبر من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وهكذا تصبح افريقيا الشمالية أو المغرب العربي الكبير بامتداده على المحيط بموريتانيا الممر الطبيعي للحوار الذي أسماه البعض حوار الشمال والجنوب وسمي من قبل الحوار الأوربي الإفريقي وأنا شخصيا أفضل التعبير الثاني وهكذا نسمي هذه المجموعة مجموعة المغرب العربي لتجانسها ووحدة لغتها ووحدة دينها، ونسميها افريقيا الشمالية لنعطيها أهميتها من الناحية الجيوستراتيجية والجيوسياسية، ولي اليقين أنكم تزنون بالميزان المستقيم والحقيقي ما علينا منذ الآن من واجبات ومن التزامات بالنسبة لقارتنا ولأسرتنا العربية التي سنكون لها دعما وحافزا ولحضارة البحر المتوسط الذي منه انبثقت لا اقول جميع الحضارات ، لأن هناك الشرق الأوسط والشرق الأقصى بل حضارات مهمة انبثقت من بحرنا المتوسط الذي تكون افريقيا الشمالية أكثر من نصف ضفته الجنوبية.

وحينما نفكر أننا في المغرب طلبنا قبل ثلاث سنوات من المجموعة الأوربية عضويتنا الكاملة لم تقل لنا المجموعة الأوربية: ان طلبنا مرفوض، ولم تقل لنا كذلك أنه مقبول ، ولكن اخذت على نفسها أن تنظر إلى " ملفنا " .ومن هنا أصبح لدى المجموعة الأوربية نظارتان، النظارة القانونية وبالطبع نحن لسنا من أوربا، والنظارة السياسية التي تغلب هنا على النظارة القانونية، وحينما يصبح المغرب الذي طلب انضمامه كعضو كامل العضوية في المجموعة الأوربية عضوا حيا ونشيطا في مجموعة المغرب العربي الكبير وافريقيا الشمالية سيصبح لطلبه آنذاك وزن آخر، وأظن سيتغلب المنظور السياسي على المنظور القانوني إلى أن يقع ان شاء الله اندماج أو شبه اندماج لا بين المغرب فقط بل بين المغرب العربي الكبير أو افريقيا الشمالية وبين أوربا ولكن حينما نقول أوربا لا نعني فقط المجموعة الغربية، إذ علينا أن لا ننسى أن جميع بلدان المغرب العربي الكبير منتمية إلى دول عدم الإنحياز، وعلينا ألا ننسى أن في الدول الاشتراكية أصدقاء لنا، وحتى الدول الاشتراكية الآن في الكوميكون تحاول أن تتقرب من السوق الأوربية المشتركة والعكس بالعكس.

وهكذا اذا عرفنا حقيقة كيف نسير سفينتنا وان نبقى على الصراط المستقيم، ـ لا افراط ولا تفريط ـ وان نجمع بين مالنا من شباب وحيوية وما لنا من أصالة وقدم، وعرفنا كيف نتصرف، وأنا لا أحلم وان كان من واجب بعض القادة السياسيين أن يحلموا شيئا ما يمكن أن أقول وأجزم ان أمام أبنائنا مستقبلا لا يساوي ازدهاره وعمقه ومداده الا ثقل المسؤوليات وثقل الوفاء بالالتزامات.

حضرات السادة:

قبل أن أختم كلمتي هذه التي أظن أنني قد أطلت فيها شيئا ما، ولكن الموضوع يحتاج إلى أن يكون شيئا ما طويلا، أريد أن أقول من هذه المنصة والحالة أن الأمة كلها مجموعة هنا ممثلة في منتخبيها وعبد الله خادم أمته ملك المغرب هنا أمامكم، أريد أن أقول من هذه المنصة : إن ما وقع من أحداث في جارتنا الجزائر قد آلمنا كثيرا، ويجب علينا ألا ننظر إليها بعين التشفي بل بعين المواساة والتآخي كما يجب علينا أن لا ننصب أنفسنا محللين لأسبابها ومسبباتها، فما وقع في الجزائر شيء داخلي لا يعرف كنهه و أسبابه إلا أهل الجزائر، فما علينا إلا أن نطبق على مستوى القانون الدولي ما قاله النبي e في حديثه ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ).

حضرات السادة:

ستنكبون عما قريب على مشاريع، ومن جملتها مشاريع مهمة جدا ربما ستستغرق السنة كلها أي هذه الدورة والدورة المقبلة، فأرجو لكم التوفيق والسداد، وأرجو لكم الهداية وضبط الأعصاب، ان الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم:

(ادعوني أستجب لكم) وقال (لئن شكرتم لأزيدنكم).

اللهم اننا نحمدك على نعمتك وأفضالك ونرجو منك أن ترزقنا جميعا الخير والسداد والنجاح والتوفيق والوئام، إنك يا رب سميع مجيب، وإنك يا رب على كل شيئ قدير وبالإجابة جدير.

والسلام عليكم ورحمة الله.

وفي ختام هذه الكلمة توجه جلالته بالتحية إلى الوفود المشاركة في مؤتمر الحوار العربي الأوربي قائلا:

من هذا المجلس الموقر أود أن أحي جميع وفود البرلمانات المشاركة في مؤتمر الحوار العربي الأوربي الذين يزورون بلدنا، فأرجو لهم مقاما سعيدا، كما أقول لهم أننا نعتمد عليهم كلهم ليكونوا رسلنا، ورسالتنا هي السلام والإخاء والوئام.