تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الرباط 24/04/1964 :خطاب صاحب الجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه بمناسبة افتتاح الدورة الثانية :السنة التشريعية 1963- 1964

23/04/1964

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

حضرات السادة النواب ومستشاري المملكة المحترمين :

نلتقي بكم في هذا اليوم لنفتتح الدورة الثانية لبرلمانكم الموقر تطبيقا لنص الدستور، ونتوجه إليكم بالخطاب في مستهل هذه الدورة حرصا منا على استمرار الإتصال المباشر بكم، و مساهمة في تغدية الحوار المثمر القائم بينكم وبين حكومتنا، وجعله مستجيبا لما يعلقه عليه شعبنا من آمال.

لقد تتبعنا بكل عناية تفاصيل مناقشاتكم أثناءالدورة السالفة التي واجهتم فيها لاول مرة المسؤوليات الجسيمة التي عهد بها إليكم ناخبوكم منذ أولوكم ثقتهم، وارتضوكم ممثلين لهم، وناطقين باسمهم في هذا المجلس، وكم كان ارتياحنا عظيما للجو الذي ساد حواركم، فقد اتسم نقاشكم بسمة الإتزان، وتحلت تدخلاتكم بحرية الوقار الخليق بهذا المجلس ، وهكذا اخذتم بسلوككم هذا تدشنون في هذا البلد الأمين الذي فتح قلبه عن رضى واطمئنان لنظام الملكية الدستورية تقاليد صالحة، تشكل أسسها الميثاق الذي ستسيرون على هدية في الدورات المقبلة والذي سيصبح القاعدة التي تحدد وتطبع سلوك البرلمان فيما يستقبل.

إننا موقنون بأن شعبنا دائم التطلع إلى مداولاتكم، كما ندرك أن أنظار العالم مرتدة إلينا ترقب نتائج منهاجنا الديمقراطي، تتلمس مواطن القوة والضعف منه، وفي عالم تتقاذفه التيارات وتتصارع فيه المذاهب، وما تزال بعض أجزائه تبحث عن نفسها امكن المغرب - ولله الحمد- أن يحدد لنفسه مذهبا وعقيدة وسلوكا اختارها شعبنا بكل طواعية، وقد استجاب ذلك الإختيار في الواقع لعقيدتنا وايماننا، فنظامنا الدستوري القائم على مبدأي الحرية والديموقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان وما يزال في نظرنا أصلح نظام لشعبنا المفطور على حب الحرية والمعتز بتقاليد الشهامة والإباء، والخليق بحاضر سعيد، ومستقبل أسعد ترتبط فيهما الأسباب بماضينا الذي لم يعرف بقيادة أسلافنا المقدسين الا ما يشرفنا ويزيد تعلقا بهذا الوطن وفخرا واعتزازا.

ورغم أن الدورة السالفة كانت دورة في الواقع دورة تمرين إذ كانت انطلاقة في عهد المسؤوليات الدستورية، فقد تمكنتم خلالها من الاطلاع على السياسة الحكومية بمناسبة مناقشة الميزانية ومن خلال أجوبة الوزراء، وكانت مناسبة لطرح المشاكل وتوخي الحلول، وأمكن للرأي العام أن يتابع عن كتب بواسطة الصحافة والاذاعة حياة البرلمان، ويعيش معكم في جو المشاكل التي طرحتموها، والقضايا الوطنية التي تدارستموها، وهذه إحدى مزايا النظام الديموقراطي الذي اردناه لشعبنا والذي نحرص على أن تستمر في اطاره عملية التوعية الشعبية، وتزدهر في ظله مراقبة الرأي العام للحاكمين والمسؤولين في جميع المستويات.
والآن وانتم تستقبلون دورة جديدة فإننا نأمل أن تكون دورة تفكير واستخلاص للنتائج، وتجمعون فيها بين أسلوب النقد البناء وبين المساهمة الفعالة في متابعة المجهود الوطني الذي اضطلعنا بانجازه منذ قلدنا الله أمر الأمة، ان دوركم لا ينحصر في الاعراب عن الرغبات والتقدم بالمطالب، إن دوركم الأساسي هو العمل الدائب لمساعدة السلطة التنفيدية بما تقدمونه من مقترحات القوانين، كما لا يقتصر دوركم على التشهير بنقط الضعف, والسعي لتقويم انحراف الحاكمين, بل إن عملكم يصبح اكثر موضوعية ، وايجابية إذا اضفتم إلى إثارة المشاكل المساهمة في إعداد حلولها, وإذا وضعتم مطالبكم في حدود الإمكانيات الضرورية لتنفيذها, إذ أنكم تعلمون ولاشك أن تنفيذ أية سياسة يفرض سبق الاختيار وهو رهن بما يتطلبه التنفيذ من وسائل مادية, وإمكانيات بشرية.

إن السلطتين التشريعية و التنفيذية قد تتفقان على سياسة معينة واضحة المعالم والأهداف وقد تكون هذه السياسة من الوضوح بحيث لايمكن أن تحتمل التردد أو تقبل الجدل, ولكن تنفيذها قد يصطدم - مع ذلك - بصعوبات يذللها عامل الزمن, وقد يدعو الحال أن تحاط ظروف تنفيذها بمرونة وسرية تكفلان لها النجاح, وهنا يجب أن تتظافر جهود الجميع, حتى لاتحبط الغاية بالإخلال بسلامة الوسيلة, وأن يتجنب الاحراج المفضي إلى تعذر الظفر بالغاية التي يستهدفها الجميع ويحرص على الوصول إليها.

وتلك هي الخطوط العريضة لتعاون مثمر, والشروط الموضوعية لقيام حوار بناء, وبذلك فقد نحفظ برلماننا الفتي من الانزلاق نحو عيوب الديمقراطية الشكلية المنحرفة عن المنهج الديمقراطي السليم التي تعتمد الديماغوجية والمغالاة ولغو القول كأسلوب لعملها, فتسن بذلك تقاليد تجرف بها, وتكون في النهاية على أصحابها شرا ووبالا.

إن نصحا معتدلا وكلمة موزونة ليفعلان في النفس ما لا يفعله قول متطرف أو كلمة نابية إذا خلصت النيات وصدقت العزائم, وإن النظام الديموقراطي الحق ليوفر ظروف التسابق للخير, ويسمح بفتح القرائح لتتنافس في البناء والتقويم, و إن دستورنا لهو اصلح اطار لذلك التعاون وهذا التنافس, لما يقره بين مختلف السلط من توازن خليق بضمان استقرار الدولة, وبما يضمنه من حريات كفيلة بتحقيق ازدهار الفرد والجماعة, فلننصرف في ظله جميعا إلى البناء والعمل الانشائي, فما أحوجنا إلى تظافر الجهود, إذ يد الله مع الجماعة, و إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

وإن مما يضمن التعاون بين البرلمانيين وأعضاء الحكومة أن أكثرية هؤلاء منتخبون, فهم من البرلمان و إليه, فليذكر الطرفان أن النائب والمستشار قد يتحملان مسؤوليات الحكم يوما ما وأن الوزير قد يترك الحكم ليضطلع هو الآخر بمسؤوليته في مجلس البرلمان, فيساعد كل جانب الآخر على أن يقوم بدوره في حدود الإختصاصات التي لكل منهما, وعلى ضوء المقاييس التي تحدد دورهما. إننا نعلم أن هم النواب والمستشارين المحترمين هو أن يؤدوا مهمتهم في البرلمان على وجهها الأكمل, وألا يخيبوا الثقة التي وضعها فيهم ناخبوهم, وندرك عسر المهمة الملقاة على عاتقهم, ولذلك نحرص على أن نسهلها عليهم, فقد أصدرنا تعاليمنا بارضاء الحاجيات الخاصة بالبرلمان, باقامته في البنيان اللائق به, وبتلبية الرغائب لاعضائه الذين رأينا من اللازم أن نوليهم في الدولة مقاما ملحوظا, ونوفر لهم تعويضا عن جهودهم, ومن شأن ذلك كله أن يمكنهم من مزاولة مهامهم السامية في نطاق الاستقلال المادي والكرامة الموفورة.

إلا أن على أعضاء المجلس الموقر أن لا ينقطعوا عن ناخبيهم، و أن يمتد حبل الاتصال متينا بينهم وبين قاعدتهم الشعبية، وأن لا يستأثر بهم جو البرلمان فينكمشوا على أنفسهم بين جدرانه ومكاتبه, فيبتعدوا بذلك عن الموقع الشعبي الذي يجب أن يظلوا في هذا المجلس صورته الحقة, وصوته الصادق.

حضـــرات الســــادة :

إن دورتكم هذه لن تقل عن سابقتها نشاطا, إذ ستتمكنون خلالها من مناقشة سياسة التصميم الذي ستعرضه الحكومة على أنظاركم, والفرصة سانحة دائما أمامكم لاستجواب الوزراء, والتقدم بمشاريع القوانين, وهكذا سيمتد الحوار بينكم وبين الحكومة وهو حوار نحرص على ان يتصل ويدوم, ولعلكم ادركتم أننا نريد تعميمه في كافة الميادين, وإننا نعززه بفرص للقاء بين الحكومة وممثلي الشعب يستعمل فيها أسلوب المناظرة والنقاش, وهكذا التقى الجميع في مناظرة للفلاحة وأخرى حول التعليم, وثالثة ستعقد في موضوع التجارة والصناعة ونعتزم الشروع فيها في القريب بحول الله.

وبذلك وسعنا دائرة التمثيل في القاعدة الشعبية وهكذا تتظافر الجهود في ظل نظامنا الديموقراطي وعهد الملكية الدستورية لنحقق الآمال العريضة التي تطمح إليها جماهير شعبنا, إذ نحن مؤمنون بأن الطريق ما يزال طويلا, وان علينا أن نجد السير فيه, دون توقف ولا تخادل ولا فتور, حتى نحمد عند الصباح السرى, ونوفي الآمانة حقها.

ومهما تكن أهمية المنجزات التي حققناها, والمراحل التي قطعناها فلن يتوقف عندها طموحنا المشروع إلى حياة أفضل يتحقق فيها إلى جانب الكرامة البشرية, التقدم والازدهار, ويضمن فيها مستوى عيش كريم للفرد والمجتمع.

ولن يهدأ لنا بال ويرتاح لنا ضمير إلا إذا نعمت جميع طبقات شعبنا بحسنات وفوائد النظام الديموقراطي الاقتصادي والاجتماعي, وإلا إذا استمتع أفراد شعبنا بنتائج جهودهم وثمار أعمالهم في مجتمع يسوده العدل, وترفرف عليه ألوية الاطمئنان والسلامة ويؤمن فيه المستقبل.

وهذه الاهداف هي التي تشكل أسس ثورتنا الديموقراطية التي نتابعها في صمت واصرار، تلك الثورة التي اتخذت من عدم الاعلان عن نفسها أسلوبا طبعها وميزها, واستبعدت عنها التهريج والتلويح بالشعارات, إيمانا منها أن ليس أجدى للعمل من مداومته, وأن أكبر تزكية للأعمال والجهود لهي نتائجها, ( ولا تزكوا انفسكم, هو أعلم بمن اتقى ), وإنما الأعمال بالخواتم.

سنظل إذن في إطار هذه المبادئ ومن أجل تحقيق تلك الأهداف أوفياء للتعهدات التي قطعناها باختيارنا ورضانا على أنفسنا, وحريصين على مواصلة القيام بأعباء التكاليف والالتزامات التي طوقنا بها الدستور قانوننا الاسمى, وهكذا ستزداد العروة التي تجمعنا وشعبنا توثقا, وتبقى تلك العروة الوثقى لا انفصام بحول الله لها, ويستمر هذا البلد الأمين بضرب المثل في وحدة الصف, وتآخي القلوب, واجتماع الكلمة على البر والتقوى.

ذلك هو نطقنا الذي حرصنا على أن نتوجه به إليكم في هذه الدورة التي نعلن باسم الله افتتاحها, وأخلصنا لكم فيه النصح, وصدقنا التوجيه,( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين).

( ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم )

صدق الله العظيم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ,,,