تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

خطاب المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 1991-1992

11/10/1991

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول لله وآله وصحبه
حضرات النواب المحترمين:
قبل أن ابتدئ كلمتي أريد أن أقول بتأثر: إنني أرى هنا مقعدا فارغا،هو مقعد رفيقنا في الكفاح، وصديقنا القديم الذي بقي صديقنا الحميم، السيد عبد الرحيم بوعبيد، وإننا بهذه المناسبة لنرجو له من صميم الفؤاد الشفاء العاجل حتى يستأنف عمله بصفة عامة ونشاطه هنا في هذا المجلس الموقر بصفة خاصة.
بسم الله الرحمن الرحيـم
حضرات السادة

سأجعل لخطابي اليوم محورين، المحور الأول يخص العام الجديد الذي نعيش أو نتهيأ للعيش فيه والمحور الثاني مخصص قبل كل شيء لقضايانا الوطنية بما فيها القضية الأولى والأساس، ألا وهي قضية صحرائنا، والقضية الثانية وهي إقبالنا إن شاء الله في السنة المقبلة على إجراء الانتخابات التشريعية الجديدة.

لا أحد منكم يجهل أن العالم بأسره يتهيأ لبناء نظام جديد لتعايش الجماعات والأمم، وقد لاحظنا هذا المنعطف ولمسناه أثناء زيارتنا إلى الولايات المتحدة وبالأخص حينما قضينا الفترة الثانية من زيارتنا في مدينة نيويورك التي هي كما تعلمون المكان الذي تكون فيه جميع الدول الأعضاء في المنتظم الدولي ممثلة على اعلى مستوى، وهذا النظام الجديد حسبما فهمنا وسمعنا مثلكم هو نظام يرتكز قبل كل شيء على المشروعية والشرعية، وعلى البحث بكيفية حثيثة على جميع السبل والوسائل التي من شأنها أن تبني سلما دائما فئ جميع أنحاء المعمور.

هذا النظام الجديد مبني كذلك على روح المنافسة والمبادرة، وعلىنبذ الفرديات واختيار التجمعات، وعلى الحد من الأسلحة المدمرة، و منبثق على الشفافية وعدم تقسيم العالم إلى قسمين، الأول بإيديولوجيته و الثاني بأيديولوجيته.

إذن هذا النظام الجديد مبني على تكريم واحترام جميع الآراء وجميع الاتجاهات دون أن يتزعم هذا الاتجاه أو ينتصر هذا الاتجاه بالقوة أو العنف، وبعبارة أوضح فإن النظام العالمي الجديد مبني على الإقناع والاقتناع، ومبني كذلك على الحوار وإعطاء التجارب كلها الأساس في أن تكون مبنية على الحرية الفردية والجماعية، وإعطاء جميع التجارب وجميع النيات الحسنة الفرصة لتظهر وتنبثق إذا كانت قابلة للحياة، أو لتظهر وتنمحي إذا لم تكن قابلة لها.

وفي هذا الصدد وفي خضم هذا النظام الجديد وجدت نفسي كمواطن عربي وكمسؤول مغربي في الموقع الأول أو المرتقب الأول لما هو مبذول لإرجاع السلام إلى منطقة الشرق الأوسط.

وهكذا وجدت في واشنطن كما وجدت في نيويورك عزما أكيدا لا رجعة فيه على السير بمسلسل السلام إلى نهايته، وقد سمعت لا أنا فقط بل انتم كذلك وسمع العالم كله خطاب صديقنا القديم فخامة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السيد جورج بوش الذي ألقاه رسميا يوم استقبالنا حينما أكد أن السلم :يجب أن تنبني في المشرق العربي وفي إطار الخلاف العربي الإسرائيلي على النقط الآتية

ـ أ ولا تطبيق القرارين 242 و 338

ـ ثانيا إجلاء جميع القوات المحتلة عن البلدان المحتلة

ـ وأخيرا الاعتراف للشعب الفلسطيني بحقوقه في أن يكون له وطن

وقد تبين لي أثناء المحادثات الثنائية التي كانت بينه وبيني رأسا لرأس وعندما أعطاني التوضيحات والتفسيرات أن عزمه أكيد على تخطي جميع الصعاب والسير قدما نحو إنجاح المؤتمر، وكانت هناك إشكالية مهمة لم تحل آنذاك ، ألا وهي موقف البرلمان الفلسطيني في المنفى.
ولم تمر على وجودنا في واشنطن اكثر من 36 ساعة حتى قرر الفلسطينيون بأغلبية ساحقة الانضمام إلى مؤتمر السلام.

وكان هذا الموقف بالنسبة لجميع أصدقاء السلام عربا كانوا أو غير عرب البشرى الكبيرة التي تجعلنا نفكر هي أن السلم ستتحقق إن شاء الله بنسبة تفوق 90 في المائة، لماذا أقول بنسبة تفوق 90 في المائة، لأنني حينما انتقلت إلى نيويورك وبانتداب من رؤساء دول المغرب العربي الذين كانوا-كما تعلمون- قد اجتمعوا أسبوعا قبل ذلك بالدار البيضاء اجتمعت مع وزراء الخارجية المغاربيين، ووزراء خارجية دول المواجهة، أي مصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين، وأعطيت لكل واحد منهم الكلمة، وطلبت منهم موقفهم باسمي شخصيا وباسم المغرب العربي الذي كان لي الشرف آنذاك أن أمثله، وهنا اثلج صدري مرة أخرى ويمكنني أن أقولها علنا ورسميا أنه ليس في أذهان دول المواجهة العربية أي تردد أو أي تحفظ للسير في مسلسل السلام.

وإذا كانت هناك عراقيل أو صعوبات أو حواجز يمكن أن أكون من الشاهدين على أنها لن تأتي من الدول العربية المعنية مباشرة بالأمر، بل ستأتي من الطرف الإسرائيلي، وهذا كما قلت لكم هو الذي يجعلني مطمئنا ومتفائلا، لأن العرب ولله الحمد سواء كانوا في المواجهة أو في الصف الثاني أصبحوا جميعا يتكلمون لغة المسؤول ولغة الرجل الذي يلمس الواقع ولغة المواطن العربي الذي يريد أن يتدارك الوقت الذي ضاع والذي يريد أن لا يبقى مشغولا بفتن الحرب وسلبيات الحرب، بل يريد أن يطول جسده وان يقف على رجله وأن يشرئب بشخصيته ويطل بعبقريته على القرن الذي نحن مشرفون عليه.

وأثناء هذه الزيارة لم أتكفل فقط- كما هو منطقي- بالقضايا المغاربية العربية فقط، بل تطرقت كذلك بالطبع إلى مشكلنا الأساس والحيوي، ألا وهو قضية الصحراء المغربية، وأثناء المحادثات التي جرت بيني وبين الأمين العام السيد بيريز ديكويار بشكل مطول وفي جو من الصداقة والصراحة والشهامة أقول الشهامة، لأن المذاكرة لم تكن مذاكرة بين عدلين يتبادلان النقطة بالنقطة، بل كانت مذاكرة في مستوى المسؤولية العالمية والجيوبوليتيكية والستراتيجية، لمسنا في الحقيقة في معالي الأمين العام الموضوعية والاطمئنان ورباطة الجأش، الشيء الذي يجعلنا نطمئن إلى مسيرته، ونطمئن إلى أنه سيكون منصفا في تطبيق مخطط السلام وإجراء الاستفتاء في صحرائنا المغربية بكل نزاهة واستقامة، وهذا ما كنت أريد أن أزفه إليكم بكل ثقة واطمئنان.

نعم، في هذا العالم الجديد الذي يبني نفسه ويضع كل يرم لا أقول لبنة بل ركيزة جديدة لبناء نظامه الجديد بسرعة ولكن بإتقان، على المغرب أن يرى كيف سيحتل مكانته في هذا العالم، وما هو مستوى هذه المكانة التي يريد أن يتبوأها، وما هي المشاركة التي تستجيب لعبقريته في الماضي والحاضر والتي تكون في مستوى مطامحنا وفي متناولنا.

تعلمون رعاكم الله أن الديمقراطية لها عدة تفسيرات، لكن المهم في الديمقراطية ليس هو التفسير أو التعريف بل النتائج، فكم رأينا من ديمقراطيات لم تكن لا أقل ولا أكثر من واجهة مسرحية ليصل البعض باسم الديمقراطية إلى محو الديمقراطية وركوب الوسيلة المضادة لها. إن الديمقراطية في اعتقادنا وفي ضميرنا هي قبل كل شيء اقتناع وحوار، اقتناع بأن الرأي الوحيد لا يسعد صاحبه فبالأحرى أن يسعد غيره، والنقطة الثانية هي الحوار ثم الحوار لا من اجل الحوار، بل للوصول إلى الأهداف المتوخاة.

والنقطة الثالثة بالنسبة لنا هي أن التعلق بالحوار يجب أن تصاحبه المرونة التي يجب أن تطبع كل مرحلة من المراحل، وكل ميدان من الميادين، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.

فإذا كان حتى في القرآن الناسخ والمنسوخ فمن باب أولى وأحرىأن يكون في سير البشر الناسخ والمنسوخ، فالذي كان ثابتا البارحة يمكن أن يصبح مشكوكا فيه اليوم، وما يظهر صعب المنال اليوم سيصبح في متناول اليد غدا، فما يطبق على الاقتصاد بكيفية عامة أو على الصناعة أو الفلاحة أو الضرائب أو معاملة البشر بعضهم لبعض يجب إن يخضع لقاعدة الناسخ والمنسوخ، ولقاعدة المصالح العليا، ولقاعدة تفضيل الأحسن على الحسن إذا كان ذلك ممكنا.

يتعين إذن أن نواجه السنة المقبلة إن شاء الله والانتخابات المقبلة بهذهـ الروح المتمثلة في أن الديمقراطية ليست وحيا يوحى على فرد واحد، ذلك أن الرسالة انتهت بانتهاء رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لأي مواطن في أي بلد كان بما في ذلك المغرب سواء كان هذا المواطن في القمة أو في القاعدة أن يعتقد أنه ينفرد بالحقيقة، أو أن الديمقراطية حكر عليه، أو أنه هو الوحيد الذي يتلقى الوحي مباشرة أو بكيفية غير مباشرة، بل علينا جميعا- من باب الاجتهاد- إذا كانت لنا مفاهيم وأهداف للوصول إليها أن نقيس بالحوار هذا المفهوم بهذا المفهوم، وبالحوار أن نقتنع بما هو الهدف الأسبق بالنسبة للهدف السابق.

فينبغي دائما وأبدا الرجوع إلى ما كنا بصدده كما بقول العلماء، فإذا نحن راجعنا أنفسنا دائما وابدأ للتقليل من أنانيتنا، وراجعنا أنفسنا بشيء من التواضع، علما منا انه ليس فينا في مغربنا كله رجل أوتى الحكمة من أولها إلى آخرها، وإذا نحن تحلينا بالصبر والتواضع الفكري للاستماع إلى حجة الغير وإقناع الآخر بحجته، ولكن الحجة بالحجة، لا الضغط بالضغط، فلي اليقين أننا في السنة المقبلة وعند انتخاب المجلس المقبل سنكون قد وضعنا لا أقول اللبنات بل الركائز التي بها سنبني نحن كذلك قبة مجتمعنا في هذا العالم الجديد الذي يريد خلق نظام جديد مبني على الحرية الفردية والجماعية. الغريب أن الكثيرين في المغرب وخارج المغرب يستغربون لوجود ثغرات أو ما يعتقدون أنه ثغرات فيما يسمى بحقوق الإنسان، والواقع انه ليست هناك أية ثغرة في حقوق الإنسان في المغرب.

وهنا أفسر قولي وهذا ليس ادعاء، فقوانيننا كلها سواء الجنائية أو المدنية ليس فيها ما هو مخالف ومعارض لحقوق الإنسان.

أولا ـ إن التطبيق هو الذي كان يظهر أن المغرب لا يحترم حقوق الإنسان ولا يعيرها أي اهتمام، وثانيا لا تنس أن موضة حقوق الإنسان لم تظهر إلى الوجود إلا منذ بضع سنوات، وقد أبرزتها آنذاك السياسة الأمريكية في عهد الرئيس كارتر، لا تعلقا بحقوق الإنسان، ولكن لإحراج الاتحاد السوفيتي.

فعلينا أن نكون واثقين من أنفسنا معتزين بقوانيننا، فقوانيننا التي وضعت سنة 1958 في عهد والدنا رحمة الله عليه والتي تتمثل في قوانين الحريات العامة سواء في ما يخص حرية التجمع أو تكوين الجمعيات والأحزاب والنقابات، أو فيما يخص حرية الصحافة ليس فيها قانونيا لا أقول عمليا ما يجعلنا نخجل منه إذا نحن سافرنا أو عشنا في مجتمع غير المجتمع المغربي، فلسنا مستعدين لتلقي دروس في هذا الباب، ولكن مستعدون لأن نساير روح العصر، ولأن نوسع مفاهيمنا بالنسبة لحقوق الإنسان، غير أني لا أظن أن هناك مغربيا عليه أن يخجل إذا ذكر لفظ حقوق الإنسان.

و ها انتم سوف ترون عما قريب إن شاء الله أن المغرب سيصبح مضرب المثل في تطبيق حقوق الإنسان وفي الاهتمام.

بحقوق الإنسان، ولو لم نكن متشبثين بحقوق الإنسان لما كنا شعب أحرار، ولو لم نكن شعب أحرار لما حاربنا الاستعمار، ولو لم نحارب الاستعمار لما كنا في تاريخ الاستعمار الدولة التي عرفت اقصر فترة استعمار اي أقل من خمسين سنة، فلهذا علينا- حضرات السادة- أن نستقبل السنة المقبلة وأهدافنا هي الآتية:

- استرجاع صحرائنا بكيفية نهائية لا جدال فيها بإجراء استفتاء تأكيدي للحجج المغربية القانونية والتاريخية.

وبهذه المناسبة أريد أن أؤكد هنا ما قلته مرارا وتكرارا ولكن أؤكده هنا في هذه المناسبة التي يتكلم فيها ملك المغرب وممثل الشعب المغربي باسمي وباسمكم أؤكد ما زال الوطن غفورا رحيما، وأود أن أؤكد كذلك أنني لا أريد عندما ينتهي الاستفتاء أن يكون هناك غالب أو مغلوب، بل أريد مجتمعا مغربيا صحراويا التحق بأجمعه ورفته ببلده الأصلي.

وحينما ألتزم باسمي وباسم المغرب الممثل هنا أقول واعتقد أن هذا الالتزام سيحترم، و أرجو الله أن يكون موضوع.

اهتمام الذين هو موجه إليهم، إن علينا أن نستقبل هذه السنة وهدفنا هو استرجاع الصحراء.

علينا في المناقشات التي ستجرى خلال هذه السنة بين الجهازين التشريعي والتنفيذي ألا نعتقد أن المسؤولية انتهت، لان الانتخابات الجديدة وشيكة، بل إن كل قرار اتخذ من طرف الحكومة وصوت عليه البرلمان أو رفضته لا ينتهي مفعوله بانتهاء هذا البرلمان، بل عليكم أن تعلموا جميعا برلمانا وحكومة أن ما ستقررونه هذه السنة- رغم أن البعض فيكم لن يوجد في أكتوبر المقبل- سيكون ملزما للمغرب، لذا يجب عليكم أن تتحلوا بروح النزاهة وروح الإنسان الذي يقول: إن المهم هو أنني، ولو كانت حظوظي للرجوع إلى هنا ليست كبيرة، قد أضفت في آخر حياتي النيابية عملا إيجابيا إلى أعمالي الأخرى، علما مني أن كل قرار صدر عن البرلمان سوف يلزم المغرب طيلة سنين وسنين.

علينا في تنظيم حياتنا عند النظر في اقتصادنا وتجارتنا الخارجية وتكاليفنا الاجتماعية وتنظيماتنا الإدارية وتطوير منافساتنا وقدرتنا على المنافسة أن نأخذ بعين الاعتبار أن العالم الجديد قرر أن يضاعف سرعته.

فعلينا إذن أن نكون متمتعين باللياقة البدنية والفكرية والسياسية لنخوض معركة السباق، ولنكون على الأقل في الوسط إذا لم نكن في مقدمة المتسابقين، وعلينا أخيرا أن نتجنب ما من شأنه أن يفتت الصفوف ويضعف القوى، نظرا لما ينتظرنا من تجنيد من الآن والى منتصف شهر يناير المقبل .

إن لنا جميع الحظوظ لربح رهان الاستفتاء، وهذا ليس مجرد شعور، بل اليقين كذلك، ولكن هذا اليقين حتى يمكنه أن يكون يقينا يتجاوز شخصنا ينبغي أن يظهر على ملامحنا، ويجب علينا أن نترك الاكتئاب، فحياتنا السياسية أصبحت كئيبة جدا، وعلينا أ ن نتبسم شيئا ما، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يوصى بالبشاشة، وكان صلى الله عليه و سلم يحب الفأل الحسن ويحض عليه، فعلينا إذن أن نعكس في وجوهنا وهيأتنا وهندامنا ما في قلوبنا من يقين وإيمان وانتظار محقق لنصر محقق.

(وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل ليمن لدنك سلطانا نصيرا، وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا).

صدق الله العظيم، و السلام عليكم ورحمة الله.