تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية السيد جاك شيراك للبرلمان (11 أكتوبر 2003).

عقد البرلمان بغرفتيه، مجلس النواب ومجلس المستشارين، جلسة مشتركة صباح يوم السبت 11 أكتوبر 2003، الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة عشرة، خصصت للاستماع إلى خطاب فخامة الرئيس جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية .

            في البداية ألقى السيد رئيس مجلس النواب الأستاذ عبد الواحد الراضي كلمة رحب فيها بضيفه الكبير، أعقبه خطاب السيد جاك شيراك باللغة الفرنسية، (وتوجد ترجمته باللغة العربية في ملحق مرفق هذا المحضر) واختتمت الجلسة بكلمة السيد عبد الواحد الراضي جدد فيها شكره للرئيس الفرنسي على خطابه الودي وعلى زيارته للبرلمان المغربي، مؤملا أن تشكل هذه الزيارة مرحلة جديدة في تعزيز روابط الصداقة النموذجية التي تجمع الشعبين المغربي والفرنسي .

            وفي ما يلي نصي خطاب  السيد عبد الواحد الراضي رئيس مجلس النواب يليه خطاب فخامة الرئيس جاك شيراك :

خطاب  السيد عبد الواحد الراضي رئيس مجلس النواب:

بسم الله الرحمن الرحيم . والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين .

فخامة رئيس الجمهورية الفرنسية ،

سيدتي ،

السيد الوزير الأول ،

السيدات والسادة الوزراء، وأعضاء الوفد المرافق للسيد رئيس الجمهورية الفرنسية،

السيدات والسادة البرلمانيين ،

السيدات والسادة ،

اسمحوا لي، فخامة الرئيس، باسم جميع أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين، أن أرحب بكم وبالسيدة شيراك والوفد المرافق لكم في مؤسستنا.

فخامة الرئيس ،

إنها لسعادة عارمة وفخر كبير أن يستقبلكم أعضاء برلمان المملكة المغربية باعتباركم صديقا كبيرا للمغرب في هذه المؤسسة، رمز ديمقراطيتنا التي اختارها المغرب نهجا وضع أسسه جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني  طيب الله ثراه، وعززه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.

وقد شكل الخطاب الملكي أمس في افتتاح السنة التشريعية الحالية فرصة أخرى للتأكيد على الإرادة القوية للمملكة المغربية في بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي والمتضامن، وذلك من خلال العمل على النهوض بأوضاع المرأة وإنصافها، وتعبئة الجماعات المحلية لخدمة التنمية ومواصلة تنفيذ برنامج إصلاح نظام التربية والتكوين، وتعزيز أسس النظام الديمقراطي المتمثل في الأسرة والمدرسة والجماعات المحلية .

فخامة الرئيس، إننا نحيي من خلالكم عبقرية الشعب الفرنسي الصديق، الذي أعطى الكثير من أجل تقدم البشرية، سواء في مجالات العلوم والمعارف، أو في الدفاع عن حرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. (تصفيقات).

إن فرنسا، الوفية لنفسها ولمثلها العليا تدافع اليوم بشجاعة واقتناع عن الشرعية الدولية، وعن عالم متعدد الأطراف وضعت أسسه المجموعة الدولية بمثابرة منذ 1945، من أجل ضمان المساواة والديمقراطية في العلاقات بين الأمم .

فخامة الرئيس ،

إذا كانت فرنسا باعتبارها أحد ركائز البناء الأوروبي فإنهالم تتخل عن واجب التضامن من أجل تحقيق الرخاء المشترك بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا الإطار فإننا نحيي المبادرة الهادفة إلى تحويل المنتدى البرلماني الأورومتوسطي الذي يترأسه المغرب، إلى جانب رئيس البرلمان الأوروبي، إلى جمعية برلمانية أورومتوسطية، ونتطلع إلى الدور الفعال الذي ستقوم به فرنسا في هذا التوجه، والذي يرمي إلى إعطاء دفعة جديدة لمسلسل برسلونيا . وفي عالم معرض للاهتزاز في مرحلة الانتقال من قرن إلى آخر، وممزق بالنزاعات التي تهز مختلف القارات، تعمل فرنسا بكل قواها من أجل إرساء السلم حيثما استطاعت ذلك، وخاصة في إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تدعم المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولة حرة ومستقلة على كامل ترابه . (تصفيقات).

فخامة الرئيس ،

إن الشعوب العربية والإسلامية لن تنسى أبد زيارتكم إلى القدس، والشجاعة التي قدمتم بها دعما سياسيا وأخلاقيا للقضية العادلة لهذا الشعب المهان، المقموع، منذ أكثر من نصف قرن.(تصفيقات).

لقد عارضت فرنسا، تحت قيادتكم، عن اقتناع، أمام عالم معجب بذلك، الحرب على العراق، وتواصل مع حلفائها الدفاع عن وحدته وسلامة ترابه واستقلاله وسيادته .(تصفيقات).

ومن جهته لن ينسى الشعب المغربي ما تبديه فرنسا من تفهم ثابت وواضح لقضية وحدته الترابية . كما لن ينسى دوركم الشخصي، فخامة الرئيس، في جميع المحافل، وفي كل الظروف، من أجل دعمه في قضيته العادلة هذه .(تصفيقات).

إن فرنسا التي تعتبر الشريك الأول للمغرب في مختلف المجالات، تقيم مع بلادنا تعاونا نموذجيا، متعدد الأبعاد والمجالات، ومفيدا للبلدين الذين نجحا المغرب في نسج علاقات متميزة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والبشرية.

لقد ساهمت الجالية المغربية المقيمة بفرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تحظى بحسن الضيافة، بشكل كبير وبفعالية في إعادة بناء فرنسا وتنميتها       وازدهارها. كما أن مزدوجي الجنسية يشكلون مع هذه الجالية أداة وصل  متينة وضمانة لاستمرارية حسن علاقاتنا .

فخامة الرئيس ،

إن المغرب، الدولة العريقة ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية منذ الاستقلال، تجمع بين الشرعية التاريخية والشرعية الديمقراطية.

لقد تشكلت هوية الشعب المغربي على مدى قرون، مستلهمة أصالتها من مرجعياته الثقافية المتعددة . ولقد احتك الشعب المغربي المنتمي أساسا إلى الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الأمازيغية الإفريقية، وتفاعل، وتعايش، في انسجام، مع الحضارة الإغريقية الرومانية الكبرى، والحضارة اليهودية المسيحية، التي نقيم معها منذ زمن طويل، إلى يومنا هذا، أحسن علاقات الشراكة في إطار الفضاء الأرو-متوسطي وخارجه.

إن هذه العوامل هي ما يفسر انفتاح الشعب المغربي على الحوار، كما تفسر تشبثه بالتسامح، وحسن الاستقبال، والسلم، والحرية، واحترام الآخر، في انتماءاته ومعتقداته واختياراته مهما كانت طبيعتها.

إن هويتنا، وشخصيتنا، التي تشكلت على مدى قرون، غير قابلة للاهتزاز بفعل ظواهر ظرفية ناجمة عن الأزمة التي تجتازها البشرية في هذه المرحلة الانتقالية من قرن إلى قرن .

إن المغرب اليوم عازم كل العزم، تحت القيادة الحكيمة والمتبصرة لعاهله جلالة الملك محمد السادس نصره الله، على مواصلة جهوده في طريق التنمية من أجل تلبية حاجيات وتطلعات شعبه، بدعم من شركائه وأصدقائه الذين يعتبر بلدكم العظيم من بينهم.

فخامة الرئيس،

إن التشريف الذي تخصصونه اليوم لبرلماننا بزيارتكم، سيساهم -دون شك- في تعزيز الصداقة والاعتبار والتقدير المتبادلين اللذين يجمعان شعبينا ومسؤوليهما، وعلى رأسهم أنتم فخامة الرئيس وصاحب الجلالة الملك محمد السادس.

اسمحوا لي فخامة الرئيس أن أجدد مرة أخرى الترحيب بكم وبالسيدة الرئيسة وبأعضاء الوفد المرافق لكم .

نص خطاب فخامة الرئيس جاك شيراك :


السيد الوزير الأول ،

السيد رئيس مجلس النواب ،

السيد رئيس مجلس المستشارين ،السيدات والسادة مستشاري جلالة الملك ،

السيدات والسادة الوزراء ،

السيدات والسادة أعضاء البرلمان ،

            أود أولا أن أعرب أمامكم للشعب المغربي ولملكه صاحب الجلالة محمد السادس عن عميق امتناني للاستقبال الاستثنائي الذي خصني به المغرب . ففرنسا بأسرها هي التي تكرمت بهذا الاستقبال ، والصداقة بين بلدينا هي التي تجد نفسها مرة أخرى موضع احتفاء باهر .

            احتفظت في قلبي بالذكرى الطيبة لزيارة الدولة التي قمت بها للمغرب في يوليو 1995 وكانت الأولى في رئاستي الأولى . أذكر ببالغ التأثر الحفاوة الاستثنائية التي غمرني بها المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني . واليوم نجدنا أمام الحرارة نفسها والبهجة نفسها في اللقاء والقرب نفسه للقلوب والعقول والقناعة نفسها بأن لا شيء بين بلدينا يمكن أن يكون عاديا أو عارضا . ونجد   في ما يتخطى الزمن والحركات الكبيرة التي تهز العالم أن هناك الصداقة الفريدة والتي لا تمس بين المغرب وفرنسا .

            إنه شعور وإنها قناعة تعززهما، سيداتي وسادتي، دعوتكم لي كي أخاطبكم أنتم ممثلي الشعب المغربي . إنها المرة الأولى التي يتشرف بها رئيس للجمهورية الفرنسية بالتحدث من على منبركم . وهذا في لحظة معينة من الزمن، وفي الوقت الذي ينتهج فيه بلدكم بقيادة عاهله الحكيمة تحولا سياسيا واجتماعيا لم يسبق له مثيل .

السيدات والسادة أعضاء البرلمان ،

            للمغرب وفرنسا تاريخ مشترك . لقد كان لنا وجود على أرضكم عندما انطلقنا كأمم أوربية أخرى في حركة التوسع الاستعماري . ثم جاء الكفاح من أجل الاستقلال الذي قاده ذلك العاهل الكبير والنبيل جلالة الملك محمد الخامس بذكاء وعزة نفس لا يضاهيهما سوى العزم والإصرار. كانت تلك المواجهة طويلة ومعقدة، استعاد على إثرها المغرب السيطرة على مصيره ولكن دون أن تنال المرارة وروح الانتقام من الجوهر والأساس .

            منذ عام 1956 نجحنا في بناء علاقة مميزة تستلهم من الاحترام المتبادل وإرادة التفاهم وروح الشراكة ، علاقة قائمة أيضا على المحبة التي نكنها نحن الفرنسيون الذين أثر فينا بلدكم بالصميم لهذه الأرض الرائعة ولرجالها الأُنُف ونسائها الشجاعات . هذه العلاقة قد شق طريقها أسلافكم عندما ذهبوا إلى أرض فرنسا لمحاربة الهمجية وضحوا بحياتهم باسم الحرية . أود هنا أن أحيي جميع أولئك المناضلين ، خيالة القوم والقناصة والفرسان السباهيين الذين خطوا صفحة من أجمل الصفحات المجيدة في تاريخنا المشترك.

            أتيت إليكم إذا كصديق للمغرب وباسم الشعب الفرنسي شقيق الشعب المغربي ، لأعبر لكم عن قناعتي وأقدم لكم دعم فرنسا على الدرب الذي اختاره المغرب لنفسه .

            إن مجلسكم الذي يضم نساء ورجالا حريصين على المصلحة العامة ومؤتمنين على الشرعية التي تمنحهم إياها الانتخابات العامة هو أيضا دلالة عن زمن  جديد .

            لقد كانت انتخابات 2002 التي جرت بكل شفافية الدليل على أن الديمقراطية تُستأهل وتُكتسب من خلال العزم على تخطي العقبات التي تعترض طريق الإصلاح . <
p>

أحيي إرادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس الذي قام بشجاعة – مستندا إلى مآثر والده العظيم صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني ، وإلى الدستور المغربي – بفتح صفحة جديدة من تاريخ عريق ، تاريخ بلدكم  العظيم .

            هذا الدرب الجديد استثنائي على أكثر من صعيد . فهو يضع أسس بناء واعد لن يدهش إلا الذين لا يعرفونكم . تاريخكم يزخر بالحقب الحاسمة الغنية بالمبادلات وبالمواجهات أحيانا ، في مدن الإمبراطوريات وفي جبال الأطلس وفي المساحات الصحراوية ، لطالما تعرضتم لرياح التغيير وللمعارك السياسية . إنكم لا تكتشفون فكرة الديمقراطية ، إنكم تمارسونها وتعيدون اختراعها باستمرار لأن إرثكم البربري والعربي والأندلسي والأفريقي يعطيكم ثقافة فطرية في التعددية . الديمقراطية طبعت بطابعها مسيرتكم التي واكبتها منذ القدم شخصيات عظيمة، يتبادر إلى ذهني، بطبيعة الحال السلطان محمد الخامس، وأيضا كبار شخصيات الحركة الوطنية، لهذه الوجوه التاريخية اليوم، ورثتها الذين يحركون حياتكم السياسية وهمهم المسؤولية الجماعية الموجهة نحو السلام المدني والحوار .

            فمنذ الدستور الأول الذي عقب الاستقلال، مُنعت أحادية الحزب وعُززت الحريات الأساسية وشُجعت المبادرة الفردية . لابد لنا اليوم من أن نحيي شجاعة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني وبعد نظره اللذين ألهماه اختيارا كان في ذلك الوقت غريبا وسباقا . تضاف الآن إلى هذا التقليد روح المواطنة وإرادة التقدم جماعيا نحو الإصلاح، أحيي التزامكم وحرصكم على التوافق الذي أتاح تحقيق الانتقال دون صدمات في ظل احترام أفكار كل فرد ونضاله .

            أنا أحمل دعم فرنسا لهذا التطور الذي يعكس ثقتكم بأنفسكم وبالمستقبل . إن التعبير الحر عن رؤية قومية مشتركة مستندة إلى هوية قوية هو أفضل رد يقدمه بلد ما لمستلزمات تحوله الداخلي ولتحديات عالم يتغير .

            ويسعدني في مطلع هذا القرن، حيث تتمزق أمم كثيرة، أن يعطي المغرب مثال البلد ذي التقاليد الراسخة، تقاليد جبلها، في آن معا، الإسلام وروح    الانفتاح، بلد قادر على التصدي لمحن التجديد بروح الثقة التي يعطيها استقلال المصير . هكذا تستطيع الشعوب، إذ تغرف من معين تاريخها وعبقريتها   الوطنية، أن ترفع على أفضل وجه تحدي التكيف والانتقال .

            إن المغرب، أرض التسامح والملكية ذات الجذور الشعبية العميقة والأمة الشغوفة بالتقدم، يقدم التكذيب الصارخ للذين يعتبرون أن هناك ثقافات وشعوبا ومناطق عصية على الديمقراطية . الديمقراطية لا تُفرض بمرسوم ولاتُستورد لأنها خلق مستمر وجلود وثمرة إرادة مشتركة في تكوين مجتمع جديد وجعله يعيش في العدل والتقدم، وهي تتأصل في قدرة الأذهان على قبول التغيير والاضطلاع به، وتتغذى بالقيم العامة بقدر ما تتغذى بالنظرة الخاصة التي يحملها كل بلد في مرآة تاريخه .

            يضطلع المغرب بذلك دون عقد، متميزا بإرادة مزدوجة ثابتة : التحاور مع الغرب والبحث عن الحداثة مع الوفاء للتقاليد .

            وبفضل حكمة ملوكه وامتياز نخبه، أقام المغرب علاقة هادئة مع عوالم أخرى وحافظ عليها . بطبيعة الحال لم يتم ذلك دون عنف ولا صدام ، إنما استطاع المغرب في نهاية المطاف أن يستبدل أوجه التنافر السائدة في الأمس بوفاق نفيس يتيح لي اليوم أن أتحدث أمامكم بهذه اللغة الفرنسية التي نتقاسمها.

            روح الانفتاح هذه وتلك القدرة على استيعاب ما يرد من الخارج نابعتان ولا شك من إرث الأندلس ، هذا الفيض المماثل لانبثاق النهضة ، والذي نقله منفيون عظام ورحالة كلهم فضول قد نمى لديكم ذلك الميل إلى الجدل اللاهوتي والبحث الرياضي وعلم الطب ، والذي يُشكل مساهمة المغرب في الثقافة وفي القيم العالمية . إنه ردكم على أولئك الذين يحاولون أن يثيروا في نزاع لا سكون له ، الغرب ضد ذلك المدى الشاسع ، من جزر سُنده إلى المغرب ، المؤتمن على إرث النبي(صلعم).

إنه ردكم على الذين يحاولون تحريف رسالته الأخوية والسلمية ليجعلوا منها سلاح حرب ، هنا بالذات ، لا يمكنني أن أؤمن بنزاع الحضارات .

            لقد تمكنتم من التوفيق بين إرثكم وضرورات العالم المعاصر . على المجتمع المدني الآن أن يقدم في إطار ديمقراطي مجدد مساهمته في التعبير عن تطلعات كل فرد وفي بزوغ مواهب الجميع . لقد بدأتم معركة حازمة لتشجيع المساواة بين الرجل والمرأة والوصول إلى المعرفة والصحة ورغد العيش . سمعت بالأمس ، هنا بالذات ، في هذا المنبر ، صاحب الجلالة الملك محمد السادس الذي قدم لكم ، بوعي وبشجاعة ، إصلاحا سيشكل خطوة كبيرة للمجتمع المغربي . لا يمكن لفرنسا إلا أن تشيد بالحكمة التي صاحبت تصميم هذا الإصلاح وإدارته ، لأول مرة في تاريخ الديمقراطية المغربية ، سيشاور برلمانكم على موضوع مهم مثل هذا .

            إن العمل التشريعي يشكل مصدر معايير حياة الأمم والأوضاع القانونية لمواطنيها . ويستطيع المغرب أن يلهم كل من يحاول أن يعرف كيف يتحقق التعايش المتناغم بين الدين والدولة وبين الدين والدنيا في مجتمع حديث . هنا يكمن جوهر العلاقة بين الشأن السياسي والسلطة الدنيوية والدين . وبالنسبة لفرنسا المتشددة في تعلقها بالعلمنة والتي تأوي جالية مسلمة كبيرة ، فإن خبرتكم أساسية . أطلب منكم بالمقابل أن تنظروا أيضا في خبرتنا . ففي عالم يتساءل بقلق عن هجمة التعصب الديني ، ستكون معرفتكم في هذا المجال موضوع تأمل وتفكير.

            هذا السعي الصعب إلى التوازن ، من يعجب أن تكونوا رواده ؟ إن سلالتين من سلالاتكم المجيدة ، المرابطون والموحدون ، ولدتا في بوتقة متوقدة، بوتقة الصحراء والتبشير . وملكيتكم ، رمز وحدة المملكة وسلامتها هي وريثة الرسول (صلعم) . إنه لمن الطبيعي أن تقدموا إسهاما تاريخيا في عمل الحداثة هذا ، الأساسي لانسجام العالم وسلامه . كونوا جريئين أنتم الشعب الحكيم . لا تسمحوا للتعصب وللانغلاق أن يلجم الضمائر والتصرفات . امضوا قدما في طريق حريتكم .

السيدات والسادة أعضاء البرلمان ،

على هذه الأرض المغربية ، أفكر أيضا في مجمل العالم العربي المتأثر في روحه وفي عميق إحساسه بمآسي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وبالوضع في العراق . ففيما يتخطى الآلام التي تعيشها المنطقة ، تريد فرنسا وأوربا بكل تضامنهما النشط مواكبته على طريق السلام والأمن ، طريق الحرية والازدهار . إن الشراكة الأوربية المتوسطية تقرب أقدارنا وتعمق تعاوننا وتضع علاقتنا المتميزة في الديمومة . إنها أفقنا المشترك ومستقبل نساء بلداننا ورجالها .

على هذه الشراكة أن تدعم أيضا بالحوار جهود تعزيز دولة القانون التي تتنامى جنوبي المتوسط من الرباط إلى عمان . سيجد المدى الأوروبي المتوسطي بمجمله كامل معناه في قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل الاحترام المطلق للتقاليد والثقافات الوطنية وازدهارها .

عندما تدعم فرنسا والاتحاد الأوروبي مسعى المغرب في الانفتاح السياسي أو المسارات الانتخابية في المشرق ، لا يغيب عن بالهما ، من بين أمور أخرى، مستقبل المنطقة بأسرها ، إلا أن هذا الجهد لن يؤتي ثماره إلا إذا تبنته القوى الحية في المجتمعات وإذا وجدت هذه الأخيرة في ذاتها إرادة ممارسة حريتها بروح المسؤولية .

السيدات والسادة أعضاء البرلمان ،

عندما يتعرض المغرب لضربة تتألم فرنسا معه، في 16 مايو 2003، في الدار البيضاء قتل الإرهاب وجرح الأبرياء من مغاربة وفرنسيين وآخرين . أتوجه إلى الضحايا وعائلاتهم وأقربائهم وإلى الشعب المغربي برمته لأجدد التعبير عن تأثر فرنسا وتضامنها . في ذلك اليوم، اقتُرفت جريمة بحق المجتمع المغربي وبحق تقاليده وقيمه ومُثُله . في ذلك اليوم، أرادوا قتل الفكرة التي تُكونونها عن أنفسكم ومستقبلكم والمثال الذي تعطونه للعالم.

لقد تعرضتم لتجربة يجتازها غيركم ومنذ زمن بعيد - في أوروبا وفي الجزائر الدولة المجاورة وفي أماكن أخرى - بألم وشجاعة، فجاءت ردة فعلكم رائعة : انتفاضة وطنية ضخمة أظهرت أن المغرب عازم على التصدي . قررتم مكافحة الإرهاب دون هوادة، ولكن دون المساس بالاختيار الديمقراطي لمجتمعكم ودون التغاضي عن حقوق الإنسان . تعرفون أن التصرف خلافا لذلك يعني الدخول في لعبة الخصم . إنني أشارككم تماما خياركم في مكافحة الإرهاب من خلال سياسة حازمة في تفكيك شبكاته، وكذلك من خلال عمل دؤوب في المجتمع بجانب المواطنين، وهو عمل باشرتوه وتدعمه فرنسا على نحو نشط.

هذا ومن ناحية أخرى يجب ألا يجد الإرهاب في انحراف ديني دخيل دوافع ممارساته المشؤومة . لقد ذكر صاحب الجلالة الملك محمد السادس بأن مسيرتكم نحو الديمقراطية الليبرالية المستندة إلى هويتكم الدينية الخاصة ستشكل أفضل مناعة بوجه هجمات أولئك الأعداء المتعصبين وعديمي البصيرة . أؤكد لكم ثقتي بنجاح هذه المعركة وهي ليست معركتكم وحسب ، بل معركة الجميع .

السيدات والسادة أعضاء البرلمان ،

منذ بداية ولايتكم البرلمانية أنجزتم عملا ضخما، فقد صوتتم على القوانين التأسيسية موسعين أعمال أسلافكم، ومنها ما قام به السيد يوسفي الذي حقق في حينه التناوب الناجح الذي يعتبر أول مرحلة من مراحل الإصلاح السياسي . لكن التحديات أمام مجتمعكم ضخمة .

فالشباب كثيرون ومتلهفون على أبواب الحياة النشطة، ولا يطلبون سوى تقديم مساهمتهم في تحول البلاد الذي بوشر به أصلا . إن التنفيذ الشجاع لميثاق التربية، والعمل المنجز بالعمق في قطاع التكوين المهني، سيقودان إلى نجاح الانتقال نحو اقتصاد ذي قيمة مضافة كبيرة، وذلك بفضل تحرير الطاقات والتعبير عن تلك الإمكانيات الكامنة الفريدة التي أتاحت لكم على مر العصور تشييد تراثكم العظيم . إن الحكومة، برئاسة السيد إدريس جطو تنكب بعزم وجدارة على هذه المهمة الشيقة والشاقة .

إن إنجاح الربط بأوروبا، وهو خيار اتخذتموه بكامل المسؤولية، وتصحيح التباينات الاجتماعية وتحديث البنى التحتية تشكل كلها ورش عمل تتطلب الشجاعة والعزم وروح التضحية . لقد اخترتم الاتجاه الصحيح، على هذا الدرب الطويل والمحفوف بالعقبات، الذي يقودكم نحو التنمية المستديمة . وبهذا الصدد، يشكل اتفاق الشراكة المبرم مع الاتحاد الأوربي فرصة مواتية لبلدكم .

إن فرنسا وأوروبا عازمتان على مواكبتكم على هذا الدرب، ثقوا بأنكم لستم وحدكم لمواجهة التحديات والصعوبات، أنتم معنا عند ملتقى إفريقيا وأوروبا، وملتقى البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، جزء من أسرة الأمم العصرية المولعة بالسلام والحرية. سنرى معا بزوغ فجر جديد في هذا "المغرب" الذي تلوذ إليه الشمس لترتاح .

سيداتي ، سادتي ، أشكركم .